الحركة الثقافية في المملكة العربية السعودية لم تعد نشاطًا موسميًا أو ترفًا فكريًا يقتصر على النخبة؛ بل تحوّلت في العقد الأخير إلى مسار وطني متكامل يعكس الوعي بأهمية الثقافة في تشكيل الهوية وصناعة المستقبل، فمن خلال رؤية المملكة 2030 التي جعلت الثقافة ركيزةً من ركائز التنمية البشرية والحضارية، أخذت ملامح المشهد الثقافي السعودي تتغير بعمق، لتصبح الثقافة فعلًا يوميًا وضرورة حياتية، تتجلى في تأسيس الهيئات المتخصصة، وفي دعم المؤلفين، وفي رعاية المواهب، وفي إقامة الفعاليات الكبرى التي تعكس الثراء المحلي والانفتاح على العالم.
خلف هذه الرؤية اليقظة يقف سمو الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان آل سعود وزير الثقافة اليوم في صدارة المشهد الثقافي السعودي بوصفه صانعًا لحراك غير مسبوق، إذ لم يكتفِ بإدارة الشأن الثقافي بوصفه مؤسسة رسمية؛ بل جعله فضاءً مفتوحًا للحوار والتجديد والمثاقفة، فقد عمل على تحويل الثقافة من نطاقها التقليدي الضيق إلى ساحة رحبة تتسع للأدب والفنون والفكر، فصارت المهرجانات والمعارض والمسارح منصات نابضة تُترجم الرؤية الوطنية إلى واقع حي، وبفضل هذه الجهود أصبح الحقل الثقافي مسرحًا تتحرك عليه الفنون الأدبية والفكرية بكل جد ونشاط، في تلاقٍ خصب بين الموروث والمعاصر، وبين المحلي والعالمي، ليُعلن أن الثقافة في المملكة لم تعد صدىً للتاريخ فقط؛ بل هي قوة فاعلة في صياغة الحاضر واستشراف المستقبل.
وفي هذا السياق يجيء معرض الرياض الدولي للكتاب 2025 بوصفه الحدث الأبرز على الخريطة الثقافية السعودية والعربية، تحت شعار بالغ الدلالة هو «الرياض تقرأ»، فالمعرض هذا العام يقام في حرم جامعة الأميرة نورة بنت عبد الرحمن، مستضيفًا العديد من دور النشر ووكالات الدول على المستويين العربي والعالمي؛ ليشكل منصة عالمية للمعرفة وتبادل الأفكار، وملتقى يجمع القارئ بالكاتب، والمؤلف بدور النشر، والجمهور بالثقافات الأخرى، وهو ليس مجرد سوق للكتب، بل فضاء حيّ للحوار والتلاقح الثقافي، وميدان لتشجيع الإبداع والابتكار، ومجال رحب يعكس حجم التحول الثقافي الذي تعيشه المملكة.
إن أهمية هذا الحدث تتجاوز المعرض في ذاته لتصب في الأهداف الأوسع لرؤية 2030، حيث تتجلى أبعاد الهوية والانفتاح والاقتصاد المعرفي، فالمعرض يرسخ قيمة القراءة بوصفها مدخلًا للوعي ورافدًا للتنمية، ويمنح المؤلف السعودي حضورًا خاصًا عبر أجنحة مخصصة للنشر الذاتي ودعم الإنتاج المحلي، كما يفتح أبواب التفاعل مع الثقافة العالمية عبر ضيوف الشرف ودور النشر الدولية، إنه صورة مصغّرة لما تريده المملكة من مجتمع قارئ ومثقف، قادر على أن يسهم في الحوار الحضاري العالمي، وأن يبني ذاته بالمعرفة.
ويحمل شعار «الرياض تقرأ» في طياته دلالات عميقة، فهو ليس مجرد عبارة إعلانية، بل رسالة تؤكد أن القراءة فعل جماعي يتجاوز الأفراد إلى المدينة بأكملها؛ بل إلى ربوع المملكة باعتبار الرياض عاصمتها، فالرياض هي العاصمة ومركز التحول، تتحول برمزيتها إلى مدينة قارئة، تنبض بالحياة الفكرية، وتحتضن المعرفة في مدارسها وجامعاتها ومكتباتها ومقاهيها وبيوتها، وهو شعار يُترجم رؤية مستقبلية بأن تكون القراءة عادة يومية، وأن يصبح الكتاب صديقًا لا يُفارق، وأن يكون للثقافة حضورها في تفاصيل الحياة السعودية، إنه إعلان عن انتقال القراءة من هامش الاهتمام إلى صلب الهوية، ومن نشاط فردي إلى مشروع مجتمعي شامل، يعم المملكة بكل فئاتها وربوعها، وباختلاف ثقافاتها، فالرياض تقرأ والمملكة تفكر وتنتج.
إن معرض الرياض للكتاب ليس حدثًا ثقافيًا عابرًا، بل هو شاهد على التحول العميق الذي تشهده المملكة، ومؤشر على أن المعرفة باتت في قلب مشروعها الحضاري، وعندما نقول «الرياض تقرأ»، فإننا لا نصف واقعًا فحسب؛ بل نبني مستقبلًا، ونعيد أمجاد ماضٍ عريق، ونجدد عهد فكر مستنير، عمت أنواره العالم بأسره، فمن بلادنا خرج النور، وشعَّ نبراس العلم والفكر، فأمة «اقرأ» لا تزال تقرأ، وتشجع على نشر الثقافة الجادة والفكر الهادف، حيث تصبح القراءة لغة المجتمع، ووسيلة ارتقاء الإنسان، وجسرًا يربط بين الطموح والحضارة، وبين الماضي والحاضر والمستقبل.
أخبار ذات صلة
0 تعليق