عاجل

في عصر التقنية والذكاء الاصطناعي.. هل انتهى زمن الحبر؟ - الأول نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
كلما اشتد لمعان الشاشة، خف بريق الورق، وتراجع حضور الصحف الورقية من صباحات الناس، حتى غابت رائحة الحبر التي كانت تفتتح يومهم لعقود طويلة. تغير المشهد الإعلامي كما تغيرت تفاصيل الحياة اليومية، وصار الهاتف الذكي هو المقهى والمكتبة والصالون في آنٍ واحد. ومع ذلك، تبقى المسألة أعمق من تراجع وسيلةٍ وصعود أخرى؛ إنها تتعلق بمصير الوعي الذي كان الورق يصنعه ببطء واتزان.
فالصحيفة الورقية لم تكن مجرد ناقل للخبر، بل كانت سلوكاً ثقافياً يومياً، ومدرسة في الانضباط الفكري. كانت تُعلم القارئ كيف يُمحص المعلومة قبل أن يتبناها، وكيف يفرّق بين الرأي والتحليل، وبين الانفعال والموضوعية. كانت الصفحات تُحرَّر بعناية تُشبه التقطير؛ تمر على أكثر من محرر ومدقق قبل أن تصل إلى القارئ، فتأتي صافية من العجلة والزيف. أما اليوم، فقد تحوّلت المعلومة إلى ومضة عابرة في زخم المنصات، تُستهلك بلا تمحيص ولا سياق، حتى غابت مهارة القراءة البطيئة، وغابت معها عادة التفكير الهادئ.
لم تكن الصحيفة مجرد ورق، بل إيقاع حياة. كان الناس يختلفون في الرأي لكنهم يتفقون على احترام المعلومة. وكان القارئ حين يطوي الصفحة الأخيرة يشعر أنه شارك في حوار وطني صامت، متدرج ومتزن، لا في معركة كلامية بلا سياق كما نرى في فضاءات التواصل. لذلك، فإن الدفاع عن الصحيفة الورقية ليس حنيناً للماضي، بل دفاع عن جودة النقاش العام، وعن المعايير التي تحفظ للمعلومة قيمتها.
ولأن التحول الرقمي أصبح واقعاً لا يمكن تجاهله، فإن التفكير الواقعي ليس في العودة إلى ما كان، بل في إيجاد مساحة ذكية تُبقي الورق حياً بوظيفته التربوية. يمكن أن تُبنى مبادرات عملية تُعيد الصحف الورقية إلى المدارس والجامعات، لا كرمز للماضي، بل كأداة حديثة تُنمي التفكير النقدي لدى الجيل الجديد.
تخيل لو أن كل مدرسة خصصت ساعة شهرية يختار فيها الطالب صحيفة وطنية، ويقرأ منها مقالا في مجاله المفضل، ثم يلخصه ويعرض فكرته أمام زملائه. بذلك سيتعلم الطالب أن يقرأ بتمعن، وأن يفهم قبل أن يعلق، وأن يتعامل مع الكلمة المكتوبة كمسؤولية لا كمنشور عابر. ويمكن للمؤسسات الإعلامية أن تدعم هذه الفكرة عبر اشتراكات تعليمية رمزية، تُرسل فيها الصحف الورقية أسبوعياً إلى المدارس والجامعات، فتُغرس من جديد علاقة الاحترام بين الجيل الشاب والمعلومة الموثوقة.
التمسك بالصحيفة الورقية ليس حنيناً إلى الماضي، ولا مقاومة للمستقبل، بل حفاظ على قيمة مهنية لا يمكن أن تُستبدل بسهولة: قيمة التحقق، والدقة، والمسؤولية في الكلمة المنشورة. فالصحافة الورقية هي ذاكرة المهنة وأساسها المنهجي، الذي لا يُقاس بعدد القراء بل بعمق الأثر الذي تتركه. إنها الحارس الهادئ لمصداقية الكلمة وسط ضجيج التفاعل اللحظي.
ربما تتغير الوسائل وتتحول المطابع إلى أرشيف رقمي، لكن جوهر الرسالة لا يتغيّر: أن تكون الكلمة مسؤولة، وأن يبقى الخبر موثوقاً، وأن تظل الحقيقة تُروى بالحبر لا بالانفعال. فحين نُطفئ آخر مطبعة، لا نخسر الورق فقط.. بل نخسر ذلك الجزء الهادئ من وعينا، الذي كان يعرف متى يصمت، ومتى يكتب.

أخبار ذات صلة

 

0 تعليق