أعتقد جازماً أن أكثر الأخبار غير السياسية انتشاراً في الأسبوع الماضي بين المختصين والمحللين وعامة الناس هو خبر الذهب وارتفاع الأونصة إلى أرقام قياسية تُسجل لأول مرة في التاريخ باقترابها من حاجز ال 4500 دولار، وتراجعها قليلاً بعد ذلك لجني الأرباح.
ورغم أن الآراء تتفاوت بين مدى إمكانية صعودها لأرقام فلكية جديدة حاول الجميع بالتحليل أو بالتمني إيصالها إلى مستويات الخمسة آلاف أو الثمانية آلاف وبين إمكانية تراجعها لجني الأرباح أو أكثر من ذلك، لتصل إلى «التصحيح»، إلا أن الجميع يتفق على أن الذهب أصبح أكثر لمعاناً من أي وقت مضى.
لكن أمام هذا الارتفاع القياسي، تردّد كثيراً في الأروقة والمنتديات عن مدى قدرة إدارة الرئيس الأمريكي ترامب، وهي الإدارة الأكثر جرأة وتداخلاً وتدخلاً في الاقتصاد، والأكثر حديثاً عن القلق من المديونية العامة للبلاد والبالغة 36 تريليون دولار، على توظيف حالة الانتعاش السعرية للذهب، لشطب جزء كبير من هذه المديونية، على الأقل دفترياً.
في عالم المال، تظهر أحياناً أفكار تثير الدهشة بقدر ما تثير الفضول، وأحياناً لا تحتاج المعجزة إلى أكثر من سطر في دفتر الحسابات. تخيّل لو قررت الولايات المتحدة، صاحبة أكبر احتياطي ذهبي في العالم، أن تعيد تقييم ذهبها وفق السعر الحالي للأونصة بدل السعر الرسمي القديم البالغ 42 دولاراً فقط. خطوة كهذه قد لا تغيّر الواقع الاقتصادي فعلياً، لكنها بالتأكيد ستعيد رسم صورته في أعين العالم.
تمتلك واشنطن ما يقارب 8134 طناً من الذهب، ترقد في أعماق خزائن «فورت نوكس» بهدوء مطمئن منذ عقود. هذا المخزون ظل ثابتاً منذ منتصف القرن الماضي، لكنه يُسجّل في دفاتر الخزانة الأمريكية، كما لو أن الزمن توقف عند القرن الماضي، وعند أسعار ببضع عشرات الدولارات، في حين إذا أعيد تقييمه بسعر أربعة آلاف دولار للأونصة، فإن قيمته ستقفز إلى نحو 32 تريليون دولار، وهو رقم يقارب حجم الدين العام الأمريكي الذي تجاوز 36 تريليوناً عام 2024.
هذا الحساب البسيط، يبدو حلاً أنيقاً على الورق، لكنه يحمل في طياته معضلة الثقة. فالذهب هنا لا يضخ مالاً جديداً في الخزينة، بل يخلق وهماً محاسبياً بأن الدولة أصبحت أغنى. في الحقيقة، ما سيتغيّر هو الشكل لا الجوهر. وسيبقى الدولار سيد المشهد، لكن ظله الذهبي سيصبح أطول وأكثر لمعاناً.
غير أن خطوة من هذا النوع، إن حدثت، لن تمر دون ضجيج عالمي. فالعالم سيقرأها بوصفها إعلاناً عن تحول في التفكير الاقتصادي الأمريكي، وربما بداية عودة إلى زمن الغطاء الذهبي الذي تخلّت عنه واشنطن منذ أكثر من نصف قرن. عندها ستبدأ البنوك المركزية في إعادة النظر باحتياطاتها، وستسعى الدول الصاعدة إلى تعزيز أرصدتها من المعدن النفيس، خوفاً من تحوّل المفاهيم النقدية مجدداً نحو ما هو ملموس ومضمون.
لكن ما وراء الأرقام تكمن الحقيقة الأعمق: المسألة ليست في وزن الذهب، بل في وزن الثقة. فالولايات المتحدة لا تحتاج إلى أن تلمع خزائنها لتثبت قوتها الاقتصادية، بل أن تحافظ على الثقة التي تجعل العالم يقبل ورقتها الخضراء دون تردّد. فإعادة تقييم الذهب قد تبدو مغرية، لكنها تشبه إعادة طلاء منزل من الخارج بينما أساسه لم يُرمّم بعد. في نهاية المطاف، الذهب وحده لا يصنع الثروة، بل النظام الذي يعرف كيف يحافظ على بريقه دون أن يحترق بضوئه.. هل يفعلها ترامب؟.
الذهب.. هل يفعلها ترامب؟ - الأول نيوز

الذهب.. هل يفعلها ترامب؟ - الأول نيوز
0 تعليق