ثلاثة عقود كاملة عشتها في ميدان التعليم في جدة كانت أكثر من مجرد وظيفة، كانت حياة تنبض بالحب والعطاء، ومشاعر لا تقاس بالسنوات. بين اللوحة والكلمة عرفت معنى الانتماء، وبين المدرسة والميدان كتبت أجمل فصول عمري المهني. أصدقاء وزملاء وقادة ومواقف لا تنسى شكلت ذاكرة لا تُمحى من القلب قبل الورق.
منذ أن وطأت قدماي هذا الميدان حتى لحظة قراري بالتقاعد المبكر لم يكن اليوم يوماً عادياً، بل صفحة جديدة في كتاب العمر أودّع فيها رحلة امتلأت بالشغف، وأبدأ أخرى لا تقل حباً لكنها مختلفة في ملامحها واتجاهها. كنت محاطاً بقيادات عظيمة آمنت بأن الكلمة واللوحة ليستا عملاً وظيفياً بل رسالة وضمير ووجدان ترى في الكلمة مسؤولية، وفي اللوحة بصمة تبني، وفي التعليم وطناً يزرع بالعقل والإخلاص.
في تلك المسيرة الطويلة أدركت أن القيادة ليست موقعاً يذكر بل أثر يشكر، وأن النجاح لا يقاس بما نأخذه بل بما نمنحه للميدان وللناس. كنت شاهداً على تحولات صنعت الفرق، وعلى لحظات خرجت من المدارس لتصنع وعي المجتمع، وعلى معلمين ومعلمات تركوا في طلابهم أثراً لا يزول.
ولأن الوفاء سطر لا يختصر، فامتناني الكبير لكل من قاد الميدان التعليمي في جدة وصولاً إلى الأستاذة منال بنت مبارك اللهيبي ومساعديها الذين يقودون العمل بفكر يجمع بين الوعي الإداري والبعد الإنساني، ويؤمنون بالتحفيز واحتضان المبادرات وفتح المساحة لكل فكرة صادقة تحمل هم التعليم ورسالة الإنسان. ولا أنسى الراحلين عبدالله الثقفي وكمال الغامدي اللذين كانا عنواناً للإخلاص وقدوة في القيادة والعطاء، وكل من جاء بعدهما فترك بصمة في المسار من حامد السلمي إلى عبدالله الهويمل والدكتور سعد المسعودي والدكتور نايف الزارع، رجال كان حضورهم امتداداً لضوء لا ينطفئ.
وأجد لزاماً علي أن أوجه شكري العميق لزملائي في الميدان من القيادات والمشرفين والمشرفات والمعلمين والمعلمات الذين كانوا شركاء النجاح في كل مبادرة وبرنامج، كما أشكر مديري المكاتب ومساعديهم الذين منحوني الثقة وفوضوني بالتنسيق المباشر لإقامة الفعاليات والبرامج الفنية والإعلامية والمناسبات الوطنية. وأشكر مديري مدارس مكتب النسيم ومديري ومديرات مدارس مكتب الفيحاء والسلامة، وزملائي مشرفي ومشرفات التربية الفنية الذين حملوا معي عبء العمل وجماله فكانوا نبض اللوحة وروح الميدان، أنتم شركاء الرحلة وصوتها النقي في كل فعالية وبرنامج.
أغادر اليوم الميدان راضي النفس مطمئن القلب محملاً بذكريات تضيء، ووجوه لن تُنسى، وأسماء نقشت نفسها في الوجدان قبل الذاكرة. سيبقى الحنين لجدة وتعليمها يسكنني ما حييت، وسأظل مؤمناً بأن المناصب تزول لكن الأثر الصادق يبقى، وأن أجمل ما يتركه الإنسان بعد رحيله هو الحب في قلوب من عمل معهم وصدقهم في الميدان.
ويعلم الله أن ما قدمته في مسيرتي لم يكن طلباً لتكريم ولا بحثاً عن ضوء، بل أداءً لواجب مهني وأمانة أرجو أن أكون قد وفيتها كما يحب الله ويرضى. كنت أراقب الله في كل خطوة، وأستشعر رقابته في كل قرار، مؤمناً أن التكريم الحقيقي هو أثر طيب في قلب إنسان، أو دعوة صادقة في ظهر الغيب، أو ذكر جميل يبقى حين يغيب الحضور.
سأبقى ممتناً لكل قلب صافٍ شاركني الدرب، ولكل يد امتدت بالعون، ولكل كلمة طيبة منحتني الأمل بأن الرسالة وصلت، وأن الأثر باقٍ ما بقيت القلوب تعرف الوفاء.
ولعل اللقاء القادم يحمل بداية أجمل في طريق جديد، يبقى فيه الشغف هو العنوان.
أخبار ذات صلة

0 تعليق