«اقتصاد الوحدة».. حين تُصبح العُزلة سلعة مربحة - الأول نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

رغم أننا نعيش أكثر العصور اتصالاً في التاريخ، فإن ملايين البشر يشعرون بفراغٍ عاطفي عميق. ولكن مع اتساع هذا الفراغ، لم تعد الوحدة مجرد حالة نفسية، بل تحوّلت إلى صناعة كاملة تُدرّ المليارات عبر تطبيقات الذكاء الاصطناعي للعلاقات، ومنصات العلاج الرقمي، وخدمات «تأجير الأصدقاء». أهلاً بكم في اقتصاد الوحدة، حيث يمكن الآن شراء الرفقة الرقمية، أو بثّها، أو استئجارها لتعويض الأفراد الحقيقيين.

هل تحتاج من يُحادثك عند الثانية فجراً؟ تطبيق «ريبليكا» Replika، أحد أشهر تطبيقات الدردشة بالذكاء الاصطناعي، يساعدك في ذلك. فهو يتيح للمستخدمين التحدث إلى «رفيق رقمي» يتعلم عنهم بمرور الوقت، حتى إن بعضهم يصفه بأنه «توأم روحيّ».

تخيّل أنه في اليابان، بحسب تقرير لمجلة «سايكولوجي توداي»، يمكن استئجار رجلٍ «حقيقي» في منتصف العمر من شركة متخصصة تُدعى «أوسّان»، فقط للدردشة، أو التجول معك في الحديقة.

كما خصّصت مطاعم كبائن مستقلة لتناول الطعام بشكل فردي، لمن يفضلون العزلة على محادثات المجاملة.

بدورها، تقدم تطبيقات العلاج النفسي الافتراضي، دعماً رقمياً على مدار الساعة. وتسوّق المنتجعات الصحية برامج «إعادة التوازن» لجيلٍ مرهق يبحث عن معنى لحياته. حتى شركات الحيوانات الأليفة دخلت هذا السوق، مؤجرة القطط والكلاب لمن يرغب ب«حضن مؤقت» دون التزام دائم. من الواضح أن هناك جوعاً عاطفياً عميقاً، وقد وجد السوق طرقاً شتّى لإشباعه، بمقابل مادي.

بدلاً من «كودوكوشي»!

في عام 2025، تصدّرت اليابان عناوين الصحف العالمية بعد إقرارها استخدام الروبوتات المرافقة لكبار السن الذين يعيشون بمفردهم، في استجابة تكنولوجية واضحة لظاهرة تُعرف محلياً باسم «كودوكوشي»، أو «الموت وحيداً».

اليابانيون ليسوا الوحيدين الذين واجهوا هذا التحدي، ففي عام 2018، استحدثت المملكة المتحدة منصباً غير مسبوق، حين عيّنت تريسي كراوتش كأول «وزيرة للوحدة» في العالم، بعد تقرير حكومي كشف تفشي العزلة الاجتماعية في المجتمع البريطاني. أما في الولايات المتحدة، فقد أظهرت دراسات حديثة أن نسبة متزايدة من جيل «Z» تعتبر أقرب أصدقائها ليسوا بشراً، بل تطبيقات رقمية.

اتصال رقمي.. وانفصال إنساني

ما الذي يدفعنا للبحث عن دفء افتراضي؟ في جوهره، يتعلق الأمر بإحساس عميق بالتحرر من الجذور.

فالمؤسسات التي شكّلت يوماً نسيج الحياة الاجتماعية، من دور العبادة والمراكز المجتمعية إلى أماكن العمل، تراجعت أو تغيّرت إلى حدّ كبير.

أضف إلى ذلك ثقافة تمجيد «الاستقلال المفرط» وجعل طلب المساندة يبدو ضعفاً!

تقول عالمة الاجتماع في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، شيري توركل: «نحن الآن وحيدون معاً، محاطون بالشاشات والرسائل، لكننا جياعٌ لشيء حقيقي».

فهل يمكن لهذا النوع من الأُلفة الافتراضية أن يعوّض العلاقات الواقعية؟ أم أننا نستبدل التواصل الحقيقي بآخر رقميٍّ سطحي؟

أزمة عالمية بصور مختلفة

لم تعد الوحدة ظاهرة نفسية، بل قضية صحة عامة. وتؤكد تقارير الصحة العالمية أنها خطر صحي متنامٍ، يؤدي إلى أمراض القلب والاكتئاب وحتى الوفاة المبكرة. حتى إن «تقرير الجرّاح العام الأمريكي 2023» وصف الوحدة ب «الوباء»، مقارناً أخطارها الصحية بتدخين 15 سيجارة يومياً. هل تُلبي هذه الخدمات حاجة حقيقية أم تستغلها؟

لا شك أن «اقتصاد الوحدة» يسد فجوةً نفسية حقيقية.

فالتطبيقات الرقمية والعلاج عبر الإنترنت تمثل طوق نجاة لذوي الإعاقات أو القاطنين في مناطق نائية، وتُساعد على تطبيع البحث عن الدعم العاطفي، وطلب المساعدة النفسية بجرأة أكبر.

لكن الجانب المظلم يتمثل في أن هذه الأنظمة تُصمم غالباً لزيادة التفاعل لا للشفاء، فهي تُبقينا متصلين دون أن نكون متواصلين.

ومع استبدال العلاقات البشرية بروابط رقمية، نفقد الفوضى الجميلة التي تميّز التواصل الإنساني الحقيقي.

0 تعليق