قبل نحو عقد، وُصِف بنك إنجلترا بأنه «العاشق غير الموثوق» للاقتصاد البريطاني. أما اليوم، فتبدو هذه الصفة أقرب إلى المستهلك البريطاني نفسه، في وقت تراهن فيه وزيرة الخزانة راشيل ريفز على انتعاش الشهية الشرائية كي تتماسك حسابات الميزانية.
فالميزانية التي قدمتها ريفز في 26 نوفمبر/ تشرين الثاني، تستند إلى توقعات بارتفاع إيرادات الضرائب من الأُسر والموظفين، خلال السنوات المقبلة.
لكن إذا تباطأ نمو الأجور والإنفاق، فقد تواجه المالية العامة فجوة قد تصل إلى 40 مليار جنيه إسترليني، (53 مليار دولار).
انخفاض الاستهلاك
ومنذ الجائحة، يميل البريطانيون إلى الحذر، وتوجيه جزء أكبر من دخولهم نحو الادخار، وسط مخاوف مستمرة بشأن الوضع الاقتصادي.
وتشير تقديرات مكتب مسؤولية الميزانية إلى أن الاستهلاك الحقيقي انخفض بنحو 0.25% في عامي 2023 و2024.
وعلى الرغم من ذلك، يتوقع المكتب – وهو الجهة الرقابية التي تُقيّم أداء الحكومة – أن يقفز الاستهلاك بنحو 1% خلال العام الجاري، وأن يتسارع إلى 1.75% بحلول 2029.
ويرجّح المكتب أن تصبح مساهمة الإنفاق الاستهلاكي أقوى من بقية مكونات الناتج المحلي، مع تراجع تأثير الحوافز الحكومية والاستثمار الخاص.
لكن كثيرين يشككون في هذا السيناريو. إذ يقول راؤول روباريل، مدير «مركز النمو» لدى مجموعة بوسطن الاستشارية: «طريقة إنفاق الناس تغيّرت، ولا أظن أنها ستعود كما كانت. طالما اعتمدنا على المستهلكين، لكن أداءهم الآن ضعيف ويعيق النمو».
ارتفاع معدل الادخار
وعلى الرغم من ارتفاع الأجور فوق مستوى التضخم، وتراجع تكاليف الاقتراض في السنوات الأخيرة، فإن ذلك لم يترجم إلى زيادة في الإنفاق، إذ ارتفع معدل الادخار إلى أكثر من 10% من الدخل المتاح للأسر. ولا تزال مبيعات التجزئة دون مستويات ما قبل كوفيد، بينما تكافح المتاجر والمطاعم للبقاء.
وتشير التطورات الأخيرة إلى مزيد من الضغط: تباطؤ نمو الأجور، ارتفاع البطالة، ومحاولة الشركات التأقلم مع زيادة ضرائب التوظيف التي فرضتها حكومة حزب العمال. وإلى جانب ذلك، فإن تجميد شرائح الضريبة الشخصية لثلاث سنوات أخرى سيَدفع ملايين العاملين إلى نطاقات ضريبية أعلى، ما دفع المكتب إلى توقع ركود النمو في الدخل الحقيقي للفرد تقريباً.
وأوضحت روث كورتيس، الرئيس التنفيذي لمؤسسة «ريزولوشن فاونديشن»، خلال جلسة للجنة الخزانة البرلمانية: «يعتمد مكتب مسؤولية الميزانية على افتراض مهم جداً، وهو بقاء الاستهلاك مستقراً، رغم تراجع الدخل الحقيقي في السنوات المقبلة».
ويعني ذلك أن التعافي المتوقع في الإنفاق يستند إلى قيام الأسر بتقليص مدخراتها—وهو أمر لطالما توقّعه المكتب، لكن المستهلكين ظلوا يرفضون الإقدام عليه.
الصدمة السعرية
وتقول يائيل سيلفين، كبيرة الاقتصاديين في «كيه بي إم جي» المملكة المتحدة، إنّ «الصدمة السعرية السابقة، وارتفاع توقعات التضخم حالياً، تؤثر في قرارات الإنفاق المستقبلية للأسر». وتُظهر أحدث استطلاعات بنك إنجلترا أن أغلبية الأسر تخطط لخفض إنفاقها، وزيادة الادخار خلال العام المقبل، مع توقع استمرار التضخم عند مستويات مرتفعة.
كما يعكس مؤشر «GfK» لتوقعات المستهلكين تراجعاً في رغبة البريطانيين في المشتريات الكبيرة، بالتزامن مع تدهور الثقة بالاقتصاد.
هذا الواقع يتحدى توقعات مكتب مسؤولية الميزانية بشأن عودة الأسر إلى إنفاق نسبة أكبر من دخولها على السلع الخاضعة لضريبة القيمة المضافة، وهي فرضية جوهرية لارتفاع الإيرادات من هذه الضريبة إلى 224 مليار جنيه، بحلول 2030، بزيادة 30% مقارنة بـ2024.
وفي حال جاءت الأجور، وقيم الأسهم، والاستهلاك، دون التوقعات، فإن المكتب يحذر من سيناريو يتراجع فيه إجمالي الإيرادات بنحو 40 مليار جنيه استرليني، بحلول 2030-2031، في ظل وصول العبء الضريبي إلى مستويات غير مسبوقة تاريخياً.
وتختم سيلفين بالقول: «الإنفاق الاستهلاكي محرك رئيسي للنمو في المملكة المتحدة، وأيّ تراجع طفيف فيه يترك أثراً كبيراً». (بلومبيرغ)

0 تعليق