غاز الشرق الأوسط يفاجئ العالم - الأول نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

د. رامي كمال النسور *

شهد العالم خلال السنوات الأخيرة سباقاً عالمياً محتدماً لإحكام السيطرة على مصادر الطاقة الأكثر أماناً وموثوقية، وفي مقدمتها الغاز الطبيعي الذي تحوّل إلى الوقود الأهم في مرحلة التحول نحو الطاقة النظيفة. وبينما اعتادت الخرائط الجيوسياسية للطاقة أن تتمحور حول الولايات المتحدة وروسيا وأستراليا بوصفها القوى التقليدية المهيمنة، جاءت مفاجأة عام 2026 لتقلب المعادلة رأساً على عقب..
فالشرق الأوسط يقفز إلى موقع اللاعب الرئيسي، ليزوّد العالم ب 26% من احتياجاته من الغاز الطبيعي، وهو أعلى مستوى في تاريخه الحديث.
هذا التحوّل الاستراتيجي لم يكن حصيلة زيادة الإنتاج فحسب، بل نتاج تداخل مجموعة من العوامل الجيوسياسية والاقتصادية والتكنولوجية التي دفعت بالمنطقة إلى قلب سباق الطاقة العالمي.
وفي الحقيقة أن الغاز الطبيعي أصبح محور الصراع العالمي، فهو يعد اليوم الوقود الأقل انبعاثاً مقارنة بالفحم والنفط، والمصدر الأكثر استقراراً لدعم شبكات الكهرباء، وهو أيضاً عنصر حيوي في الصناعات الثقيلة والبتروكيماويات، كما أنه يُعَدُّ أساساً لإنتاج الهيدروجين الأزرق الذي تراهن عليه الدول في مرحلة ما بعد 2030.
ومع اضطرابات الإمدادات من بعض المنتجين التقليديين، ازداد اعتماد الدول الصناعية على عقود توريد طويلة الأجل بدلاً من التوريد الفوري، ما عزّز أهمية المناطق المستقرة سياسياً واقتصادياً.
والحقيقة أن مفاجأة سنة 2026 كانت أن الشرق الأوسط يزوّد العالم بهذه النسبة من الغاز، حيث سجّل الشرق الأوسط قفزة غير مسبوقة، إذ ارتفعت مساهمته في الإمدادات العالمية إلى 26%، وذلك بفضل توسع إنتاج الغاز في قطر، وزيادة قدرات التسييل، وقرب تدشين مشاريع «حقل الشمال» الضخمة، وعودة العراق إلى التصدير تدريجياً بعد تطوير البنية التحتية للغاز المصاحب. استثمارات الإمارات الضخمة في استكشاف الغاز غير التقليدي، ومشاريع «ADNOC» للغاز المسال، وتحسن إنتاج السعودية من الغاز التقليدي وغير التقليدي (الرملي) عبر مشروع الجافورة العملاق، ومساهمة سلطنة عمان المتزايدة في الغاز المسال نتيجة تحديث الحقول وزيادة قدرة التشغيل.. هذه الطفرة، جعلت الشرق الأوسط ليس مجرد لاعب تقليدي في النفط، بل جعلته مركز ثقل جديداً للغاز الطبيعي. والحقيقة الجديدة أن أوروبا وآسيا أصبحتا في اعتماد متزايد على الشرق الأوسط بعد أزمة الطاقة التي ضربت أوروبا منذ 2022، لم تعد القارة العجوز ترغب في الاعتماد على مصدر واحد، وهنا ظهر الشرق الأوسط كمنطقة مستقرة سياسياً، قادرة على توقيع عقود طويلة الأجل، تمتلك بنية تحتية بحرية للتصدير نحو آسيا وأوروبا، وتحافظ على أسعار أكثر استقراراً من الأسواق الفورية.
أما آسيا، وخاصة الصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية، فقد عزّزت من تعاقداتها طويلة الأجل مع قطر والإمارات وسلطنة عمان، لتأمين احتياجاتها الصناعية.
إن كل ما تم ذكره أعلاه، يؤكد حقيقة مهمة، وهي أن الغاز من الشرق الأوسط ليس مجرد مورد، بل أداة جيوسياسية، إذ إن ارتفاع الصادرات أعاد للشرق الأوسط دوراً استراتيجياً في الطاقة، ولكن هذه المرة من خلال الغاز، لا النفط فقط.
وهذا يحوّل المنطقة إلى مركز قرار عالمي للطاقة، وكذلك إلى منطقة جذب استثماري ضخم في البنية التحتية للغاز، وإلى لاعب مؤثر في أسعار الطاقة خلال العقد المقبل.
وهكذا تكون دول الخليج قد حققت استفادة اقتصادية مباشرة من ارتفاع العوائد المالية، وتعزيز التصنيف الائتماني، وتوجيه فوائض الغاز نحو تصنيع الهيدروجين الأزرق، وأخيراً دعم التحول نحو اقتصاد منخفض الانبعاثات. وفي هذا المجال يبرز مجمع حبشان للغاز في أبوظبي واحداً من أكبر منشآت معالجة الغاز في العالم، وركيزة أساسية في منظومة الطاقة الإماراتية. تقوم شركة «أدنوك» عبر هذا المجمع العملاق بمعالجة الغاز المصاحب للنفط واستخلاص الغاز الطبيعي الجاف، بالإضافة إلى إنتاج مكثفات الغاز والغازات السائلة التي تشكّل جزءاً مهماً من تجارة الطاقة الإقليمية. وقد مكّن مجمع حبشان في إمارة أبوظبي من تعظيم الاستفادة من الغاز المحلي عبر تطوير سلسلة القيمة الكاملة من الاستخراج إلى المعالجة ثم التصدير، مما عزز قدرة الدولة على تلبية الطلب المتنامي للسوق المحلي وتوسيع صادراتها نحو آسيا وأوروبا.
ويعالج المجمع اليوم مليارات الأقدام المكعبة من الغاز يومياً عبر خطوط متكاملة تغذي شبكة الكهرباء والمياه والصناعة، كما يعد من أهم مصادر الغاز لتغذية مشروع الغاز المسال وشبكات إعادة التصدير. وبفضل استثمارات ضخمة في البنية التحتية الذكية، أسهم مجمع حبشان في رفع كفاءة الإنتاج وتقليل خسائر الحرق، وهو ما وضع الإمارات في موقع متقدم ضمن الدول التي تعتمد على الغاز الطبيعي كوقود نظيف ومنخفض الانبعاثات.
اقتصادياً، يلعب مجمع حبشان دوراً محورياً في تعزيز الناتج المحلي الإجمالي لإمارة أبوظبي، إذ يمثل أحد أكبر مصادر الدخل في قطاع النفط والغاز غير البحري، وتشير تقديرات اقتصادية إلى أن مساهمة مجمع حبشان ومشروعات الغاز المرتبطة به تمثل نسبة ملموسة من الناتج المحلي غير النفطي، كما تدعم استراتيجية الإمارات في تحقيق أمن الطاقة وتنويع مصادر الدخل وتعزيز مكانتها لاعباً رئيسياً في تجارة الغاز العالمية.
ختاماً، إن سباق الغاز الطبيعي لم يعد محصوراً بين القوى التقليدية، فعام 2026 شكّل نقطة مفصلية أعلن فيها الشرق الأوسط نفسه لاعباً جديداً وأكثر تأثيراً، بعد أن قدّم للعالم أكثر من ربع احتياجاته من الغاز الطبيعي. وهذا الإنجاز لم يكن مجرد ارتفاع في الإنتاج، بل هو انعكاس لثلاثية استراتيجية، رؤية استثمارية طويلة الأجل، واستقرار سياسي واقتصادي، ثم موقع جغرافي يربط الشرق بالغرب، ومع تسارع الطلب العالمي على الغاز والطاقة النظيفة، يبدو أن الشرق الأوسط يتجه لأن يصبح العاصمة العالمية الجديدة للغاز خلال العقد المقبل.
*مستشار في الأسواق المالية والحوكمة والاستدامة

0 تعليق