جون تامني *
الناس ليسوا عبئاً، ولا وجود لشيء اسمه «وظيفة مسروقة». انظروا إلى ديترويت قبل أكثر من مئة عام، حيث توافد آلاف الباحثين عن فرص عمل في صناعة السيارات. لم يُقلص هذا التدفق تلك الفرص، بل وسّعها. والسبب واضح: كلما زاد عدد العاملين معاً، زادت فرص التخصص، وكلما تعمق التخصص ارتفع الإنتاج والإبداع، وظهرت حاجات جديدة تتجاوز مجال التخصص نفسه.
لهذا السبب، ازدهرت ديترويت مع صعود صناعة السيارات، لكنها لم تخلق فقط وظائف في خطوط التجميع، بل أطلقت أيضاً فرصاً لمهن وخدمات لم يكن لها صلة مباشرة بالسيارات، من البناء إلى الضيافة مروراً بالتعليم والخدمات الطبية.
وما كان صحيحاً آنذاك لا يزال صحيحاً اليوم. فالتدفق المستمر للعقول إلى وادي السيليكون ليس تهديداً للموجودين هناك، بل بالعكس، يرفع تقسيم العمل في بيئة متكاملة من حجم الإنتاجية إلى مستويات غير مسبوقة، ويوفر وظائف في مجالات متعددة، معظمها بعيد عن التكنولوجيا نفسها.
لكن هذا المنطق البديهي يتعرض للتشويه مع تنامي الهجوم الإعلامي على العولمة. ويحاول كتاب جديد للصحفي ديفيد لينش من «واشنطن بوست»، بعنوان «أسوأ رهان في العالم»، أن يرسم صورة قاتمة لما يراه «سلبيات العولمة». غير أن الحقيقة أبسط بكثير، إذ لا وجود لما يُسمى جانباً مظلماً للعولمة، لأن تقسيم العمل عبر الحدود لا يفقد عبقريته لمجرد أن الأيدي التي تنتجه تنتمي إلى دول مختلفة. فما ينجح محلياً ينجح أكثر على المستوى العالمي، في حال زاد عدد المشاركين وتكاملت الأدوات.
وهذا ليس تنظيراً فارغاً. فمنذ التسعينات، يشير منتقدو العولمة إلى الارتفاع الكبير في الواردات الأمريكية بوصفها دليلاً على فشل الدولة. لكن هنا تكمن المفارقة، فارتفاع الواردات ليس علامة ضعف، بل دليل ازدهار. لأن العالم لا يصدّر منتجاته إلى أسواق متدهورة، بل إلى اقتصادات نابضة بالنمو.
لذلك، فإن استيراد المزيد يعني بالضرورة إنتاج المزيد. والواردات ليست سوى مرآة للصادرات. وبفضل هذا الترابط، ارتفعت إنتاجية الأمريكيين إلى مستويات لم تكن ممكنة في ظل الانغلاق الاقتصادي السابق.
أما القول إن العولمة «خذلت» بعض الأمريكيين، فهو يناقض الواقع. ولو كان صحيحاً، لكنا شهدنا تراجعاً في تدفق السلع والخدمات الأجنبية إلى السوق الأمريكية. لكن ما حدث هو العكس، الواردات تتدفق بكثافة، ما يعني أن الاقتصاد ما زال جاذباً ومزدهراً.
من هنا، تحتاج أطروحة لينش عن الرهان الخاسر إلى إعادة نظر، تماماً كما يحتاج التفسير السائد لظاهرة ترامب إلى مراجعة. فجاذبية ترامب لا تتعلق بالأيديولوجيا والسياسة كما يُفترض غالباً، وليست بالضرورة نتيجة «خيبة اقتصادية»، بل قد تكون مرتبطة بعوامل أخرى أبعد من الاقتصاد المباشر.
الحقيقة أن الناس لا يخسرون بسبب الآخرين، بل إن البعض يخسر لأنه لم يستفد من الفرص الجديدة التي وفرتها العولمة وتقسيم العمل. وهذه ليست مشكلة السياسة العامة ولا خطأ التعاون العالمي، بل سوء تقدير فردي في التعامل مع الفرص.
لذا، يُعد الحديث عن «الأمريكيين المنسيين» مجرد شعار سياسي لا يصمد أمام الأرقام. فالعولمة لم تنسَ أحداً، بل وسّعت السوق وأوجدت فرصاً لم تكن لتخطر على البال. لكن من يرفض التكيف أو يصرّ على الانغلاق، لا يمكن لأي سياسة حكومية أن تنقذه من نتائج خياره.
العبرة من هذا الكلام واضحة، وهي أن البشر ليسوا عبئاً اقتصادياً على بعضهم، بل قوة. ولم تُقصِ أي موجة انفتاح، سواء في ديترويت القرن العشرين، أو في وادي السيليكون اليوم، أو عبر موجات التجارة العالمية، أحداً، بل فتحت أبواباً جديدة لمَن أراد الدخول. أما من بقي خارجها، فلا يلوم النظام القائم الذي نسيه، بل نفسه، لأنه هو من أخطأ الطريق.
* محرر ومستشار اقتصادي، ورئيس معهد «بارك فيو» الأمريكي (ريل كلير ماركيتس)
من ديترويت إلى وادي السيليكون - الأول نيوز

من ديترويت إلى وادي السيليكون - الأول نيوز
0 تعليق