محركات اقتصاد تايوان - الأول نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

أليسيا غارسيا هيريرو*

تواصل تايوان إبهار العالم، إذ قفز اقتصادها في الربع الثاني من هذا العام بنسبة 8% مقارنة ب 2024، في أسرع وتيرة منذ أربع سنوات. هذا الرقم وحده يكفي للفت الأنظار، لكن ما يجعله أكثر إدهاشاً هو السياق الذي جاء به. كيف استطاعت دولة صغيرة بلا موارد طبيعية تذكر، وبلا سوق داخلي كبير يحميها من العواصف، أن تبني لنفسها ميزة لا تُضاهى، قوامها المرونة، وصناعات يصعب استنساخها أو الاستغناء عنها. واليوم، تبدو هذه الميزة أكثر حدّة بفضل عامل واحد، ألا وهو «الذكاء الاصطناعي».
صحيح أن صوت الضجيج حول الذكاء الاصطناعي غالباً ما يكون أعلى من الواقع، لكن في حالة تايوان وشركاتها، الواقع يفوق التوقعات. فضلاً عن أن نتائج المنافسة الأمريكية العملاقة «إنفيديا» تؤكد أن الطلب العالمي على رقائق الذكاء الاصطناعي لا يزال هائلاً، حتى وإن خيّب آمال بعض المستثمرين الذين توقّعوا قفزات أعلى.
يمكن القول، إن خلف كل شريحة من هذه الرقائق قصة نجاح تايوانية بامتياز. فقد تحولت الجزيرة إلى ورشة عمل عالمية لكل ما هو مرتبط بثورة الذكاء الاصطناعي، لتعيش طفرة غير مسبوقة منذ بدايات عصر الهواتف الذكية. ولم يكن مفاجئاً أن يرفع الخبراء توقعاتهم لنمو الناتج المحلي في 2025 إلى 5.2%، أي ضعف ما كان متوقعاً قبل أشهر قليلة فقط. إلا أن هذه الزيادة لا يذوق حلاوتها الجميع بالدرجة نفسها. ففي قلب المشهد، تقف حفنة من الشركات العملاقة، في مقدمتها «تي إس إم سي»، جوهرة التاج التايوانية، التي تقترب من احتكار عالمي لإنتاج الرقائق عالية الأداء اللازمة لتشغيل أنظمة الذكاء الاصطناعي. بالإضافة إلى «فوكسكون»، التي انتقلت من كونها رمزاً لسلاسل توريد الإلكترونيات التقليدية إلى لاعب محوري في معدات الحوسبة السحابية والشبكات.
إن هذه الشركات ليست مجرد كيانات رابحة، بل أصبحت ركائز لا غنى عنها في الاقتصاد العالمي الجديد. لكن الصورة ليست وردية بالكامل. فارتفاع الدولار التايواني في وقت سابق من العام أضعف تنافسية المُصدّرين. كما زادت الرسوم الجمركية الأمريكية الجديدة، الأقسى على تايوان منها على جيرانها كوريا الجنوبية أو اليابان، الطين بلة. صحيح أن عمالقة التكنولوجيا محميّون بتعقيد منتجاتهم التي يصعب استبدالها عند الدول، إلا أن الصناعات التقليدية في تايوان لا تتمتع بمثل هذه الدرع الواقية.
وهنا تكمن المشكلة، فالاقتصاد القوي يحتاج أكثر من قطاع واحد مزدهر. والسؤال الجوهري هو ما إذا كانت مكاسب طفرة الذكاء الاصطناعي ستتسرّب إلى الأجور والخدمات الاستهلاكية، أم ستظلّ محصورة في خزائن شركات الرقائق العملاقة؟
إن الاعتماد المفرط على قطاع واحد يبدو مثيراً على الورق، لكنه هش في الواقع. والأسوأ أن المخاطر لا تأتي من الداخل فقط، بل من الخارج أيضاً. فالعلاقة الاقتصادية مع الولايات المتحدة لم تكن يوماً بهذا العمق، ثلث الصادرات التايوانية تتجه اليوم إلى السوق الأمريكي، بعد أن كانت 15% فقط في 2021.
لكن هذا الارتباط يجعل تايوان شديدة التأثر برياح السياسة الأمريكية المتقلبة. ومع عودة الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، استعادت الرسوم الجمركية دورها كسلاح مباشر، فيما تبدو الاستثناءات الممنوحة للشركات المستثمرة داخل أمريكا قاعدة غير مستقرة لبناء مستقبل طويل الأمد.
بدورها، تبقى الصين التحدي الأكبر. فرغم تأخرها عن تايوان في الرقائق المتقدمة، إلا أنها تضخ المليارات لدعم أبطالها المحليين، وحققت بكين بالفعل تقدماً سريعاً في الرقائق التقليدية، وتشكل قدرتها على خفض الأسعار تهديداً حقيقياً لهوامش أرباح الشركات التايوانية.
بعبارة أخرى، نحن أمام اقتصاد يدور بمحركين. في قمته، يحلق قطاع الرقائق عالياً مدعوماً بطلب عالمي، وفي الأسفل، تعاني الصناعات التقليدية عملة قوية ورياحاً معاكسة دولياً. والخطر أن تركن تايوان لهذا الخلل وتفترض أن ازدهار «تي إس إم سي» يكفي لضمان رخاء الأمة كلها. لكن التاريخ يعلمنا أن الطفرات التكنولوجية ليست أبدية، فالأسواق تتبدّل، والطلب يتباطأ، وخطوات المنافسين سريعة.
صحيح أن 2025 تبدو سنة ذهبية لتايوان مع نمو يفوق 5%، وهو رقم تحلم به معظم الاقتصادات المتقدمة، لكن التوقعات لعام 2026 تشير إلى تباطؤ حاد بنحو 2.5%. قد لا تكون أزمة، لكنها تذكير واقعي بأن بناء المستقبل على ركيزة واحدة، مهما كانت قوية، لا يصنع اقتصاداً متماسكاً.
قصة تايوان بهذا المعنى هي مرآة حقيقية لعصرنا، ديمقراطية صغيرة تحت ضغط جيوسياسي دائم تحوّلت إلى قوة عالمية عبر السيطرة على أصعب الصناعات وأكثرها تعقيداً. وهذا يستحق الإعجاب، لكنه يثير القلق أيضاً.
والتحدي الحقيقي أمام تايوان اليوم هو أن تجعل من ثورة الذكاء الاصطناعي أكثر من مجرد قصة «رقائق»، وأن توسّع دوائر الفرص، وتبني اقتصاداً قادراً على الصمود أمام العواصف المقبلة.
* كبيرة الاقتصاديين لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ في «ناتيكسيس». (آسيا تايمز)

0 تعليق