علماء للجزيرة نت: تتبعنا نسب الشعير قبل 10 آلاف سنة - الأول نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

قبل أكثر من 10 آلاف عام، بدأ الإنسان رحلته مع الشعير، أحد أقدم محاصيل العالم، دون أن يدرك أن هذا النبات يحمل سرا وراثيا معقدا أشبه بفسيفساء من 5 مجموعات برية مختلفة.

ونجح العلماء مؤخرا في فك هذا اللغز من خلال دراسة دولية قادها باحثون من معهد لايبنتز الألماني، ونُشرت في دورية "نيتشر".

وقدم الباحثون في هذه الدراسة تصورا علميا لكيفية تداخل الطبيعة مع الإنسان لصناعة هذا الإرث الزراعي العظيم، وفتحوا نافذة على الماضي الزراعي العميق للبشرية، بما يمهد لفهم أفضل لأصول الزراعة وتطوير محاصيل أكثر قدرة على مواجهة التحديات المناخية والأمراض المستقبلية.

ويقول الدكتور مارتن ماشر، رئيس مجموعة أبحاث "جينوميات التدجين" بالمعهد والباحث الرئيسي في الدراسة، في تصريحات خاصة للجزيرة نت: "الشعير من النباتات ذاتية التلقيح، أي أنه لا يحتاج إلى لقاح من نبات آخر، بل يُلقح نفسه، وهذه الخاصية تجعل التنوع الجيني بين نباتات الشعير محدودا جدا، مما يصعب على العلماء تتبع الفروق الدقيقة بين السلالات أو معرفة كيفية تغير الشعير عبر الزمن".

وللتغلب على هذه الصعوبة، استخدم ماشر وزملاؤه أداة متطورة تعرف باسم "إنتروبلوكر"، وهي أشبه ببرنامج دقيق يتتبع الأجزاء الجينية المتشابهة بين العينات القديمة والحديثة، تماما كجهاز للبصمة الوراثية.

ويشير ماشر إلى أن التعامل مع الحمض النووي المستخرج من الحبوب الأثرية القديمة تم بحذر شديد، نظرا لهشاشته العالية واحتمال تلوثه بسهولة، لذلك اتخذ الفريق إجراءات صارمة لضمان أصالة العينات وخلوها من أي مواد حديثة.

ويضيف: "بعد ذلك، قارنا تسلسل الجينات في العينات القديمة بتلك الحديثة، وكانت المفاجأة أن هناك تطابقا كبيرا، مما منحنا ثقة قوية في أن النتائج دقيقة وتعكس فعلا تاريخ تطور الشعير منذ تدجينه وحتى اليوم".

FILE PHOTO: A car drives along a road separating a field of ripening wheat and barley near the village of Solgon, 308 km (191 miles) southwest of the Russian Siberian city of Krasnoyarsk, August 7, 2010. REUTERS/Ilya Naymushin/File Photo
الشعير المزروع اليوم لم ينحدر من مصدر بري واحد (رويترز)

خمس أمهات بريات

وأظهرت نتائج الدراسة أن الشعير المزروع اليوم لم ينحدر من مصدر بري واحد، بل هو مزيج وراثي من عدة أنواع برية كانت تنمو في مناطق مختلفة من غرب آسيا.

إعلان

ويوضح ماشر: "قمنا بمقارنة كل جزء من جينوم الشعير المزروع (أي خريطته الوراثية) مع الجينوم الخاص بخمس مجموعات من الشعير البري تنمو في مناطق مثل الهلال الخصيب، وآسيا الوسطى، والصحراء السورية، وشمال بلاد الرافدين. فكانت النتيجة أن كل منطقة ساهمت بجزء مختلف من الشفرة الوراثية للشعير الحديث، ولكن بنسب غير متساوية".

وساهمت منطقة الهلال الخصيب (من فلسطين والأردن شمالا حتى لبنان وسوريا) بأجزاء كبيرة ومؤثرة من الجينوم، مما يشير إلى أنها كانت أحد المراكز الرئيسية الأولى لتدجين الشعير، أما آسيا الوسطى، فقد ساهمت بوضوح في الأصناف المزروعة حاليا في تلك المنطقة وفي شرق آسيا، مثل الشعير المزروع في الصين وأفغانستان.

CHERNIHIV, UKRAINE - AUGUST 30: An agricultural worker unload cereals from a combine as workers harvest a large field of barley near the border with Russia in the Chernihiv region on August 30, 2023 in Chernihiv, Ukraine. (Photo by Pierre Crom/Getty Images)
منطقة الهلال الخصيب ساهمت بأجزاء كبيرة ومؤثرة من جينوم الشعير (غيتي إيميجز)

الطفرات سبقت المزارعين

ومن بين المفاجآت البارزة التي كشفتها الدراسة أن بعض الصفات الوراثية الحاسمة في تدجين الشعير، مثل السنبلة غير الهشة التي تمنع تساقط الحبوب، ظهرت قبل ظهور الزراعة بآلاف السنين.

يقول ماشر: "كانت هذه الطفرات موجودة بنسبة ضئيلة جدا في الشعير البري، لكنها لم تلفت الأنظار إلا عندما بدأ الإنسان بجمع الحبوب وزراعتها يدويا، فالنباتات التي احتفظت بحبوبها بدلا من أن تتناثر كانت أسهل في الحصاد وأكثر إنتاجا، ففضلها المزارعون القدماء دون وعي، حتى أصبحت هذه الصفة سائدة في الشعير المزروع".

ويضيف: "بهذا المعنى، سجل الحمض النووي بداية التحول قبل أن تسجله الأدلة الأثرية، لتكشف النتائج أن الطبيعة نفسها وضعت البذرة الأولى لتدجين الشعير، قبل أن يكمل الإنسان الرحلة".

" frameborder="0">

سلالات تفرعت ثم تلاقت

ورغم أن سلالات الشعير الثلاث المزروعة حاليا، الأوروبية، الشرقية، والإثيوبية، تباعدت وراثيا منذ آلاف السنين بعد انتشار الزراعة، فإن الفريق اكتشف أنها لم تكن معزولة تماما.

يوضح ماشر: "على مدار التاريخ، استمر التدفق الوراثي بين هذه السلالات بفعل التجارة والهجرة وتبادل البذور، فعلى سبيل المثال، أظهرت تحليلاتنا أن الشعير الأوروبي "ثنائي الصف والستة صفوف" يشتركان في بعض السمات الجينية، كما احتفظت مناطق جبلية مثل جورجيا وإيران بأدلة على تداخل محلي بين السلالات".

ويتابع: "رحلة الشعير لم تكن خطا مستقيما، بل شبكة معقدة من التلاقي والاختلاط الوراثي ساهمت في تنوعه وقدرته على التكيف مع بيئات متباينة، من سهول أوروبا الباردة إلى مرتفعات آسيا القاحلة".

ولا يزال الشعير المزروع حتى اليوم يحتفظ بصلة قوية بأصله البري، إذ تستمر الجينات البرية في الاندماج معه طبيعيا في مناطق مثل غرب ووسط آسيا، مانحة إياه قدرة أكبر على مقاومة الجفاف والأمراض والتغيرات المناخية.

من الماضي إلى المستقبل

ويرى ماشر أن فهم الأصول الفسيفسائية للشعير لا يقتصر على سرد قصة قديمة، بل يمثل كنزا جينيا للمستقبل، فمن خلال تحديد الأجزاء الوراثية التي جاءت من كل مجموعة برية، يستطيع العلماء التعرف على الطفرات الأصلية المسؤولة عن مقاومة الإجهاد البيئي مثل الجفاف والملوحة وارتفاع درجات الحرارة.

ويقول ماشر: "تتيح لنا هذه المعرفة تطوير أصناف جديدة من الشعير أكثر صلابة ومرونة أمام تقلبات المناخ باستخدام التهجين أو الانتقاء الجيني".

إعلان

ولا تقتصر أهمية النتائج على الشعير فقط، إذ تفتح الباب لإعادة النظر في تاريخ تدجين محاصيل أخرى من الهلال الخصيب مثل القمح، والعدس، والبازلاء.

فكما أن الشعير نتاج فسيفساء وراثية من 5 أسلاف برية، فإن القمح أيضا معروف بأنه يجمع جينات من عدة أسلاف مختلفة، مما يشير إلى أن كثيرا من محاصيلنا القديمة ربما نشأت من خليط جيني متنوع لا من أصل واحد كما كان يُعتقد.

ويختم ماشر بالقول: "نخطط لاستخدام المنهج نفسه، لتتبع الأصول الوراثية لمحاصيل أخرى، في خطوة تهدف إلى فهم الزراعة المبكرة وكشف موارد جينية جديدة لتحسين الإنتاج الزراعي ومقاومة تغير المناخ في المستقبل".

0 تعليق