كتبت بديعة زيدان:
في عمله الأحدث "هامش أخير"، الصادر عن دار نوفل دمعة الناشر "هاشيت أنطوان" في بيروت، يواصل الكاتب والأديب الفلسطيني محمود شقير سرد فصول سيرته الذاتية، مقدماً للقارئ الجزء الثالث والأخير الذي يستكمل فيه ما بدأه في كتابَيه السابقَين "تلك الأمكنة" و"تلك الأزمنة".
في هذا الكتاب، يغوص شقير بعمق وشفافية في ذاكرته، مستعرضاً محطات مهمة من حياته الشخصية والأدبية والسياسية، مع تركيز خاص على علاقته بمدينته القدس، التي أهداها هذا العمل واصفاً إياها بـ"ملهمتي وصانعة فرحي وأحزاني".
جوانب شخصية
يكشف شقير في "هامش أخير" عن جوانب حميمة من شخصيته، متحدثاً بصراحة عن ضعفه وقوته. يعزو الكثير من تصرفاته إلى "الخجل الزائد" الذي لازمه طويلاً، والذي يعتقد أنه كان السبب في تجنبه للمشاجرات والمواجهات.
يستعرض الكاتب مواقف من طفولته وشبابه، حيث كان يتردد في الدفاع عن نفسه، متسائلاً: "هل لو كنت شرساً وتشاجرت مع أشخاص بعينهم كان أفضل لي ولسمعتي الشخصية؟". ومع ذلك، يروي كيف أنه في إحدى المرات قرر التصدي لشخص حاول الإساءة إليه، ما أظهر جانباً آخر من شخصيته.
يتناول شقير أيضاً مرحلة الشيخوخة بتأمل عميق، وهو يدخل عامه الرابع والثمانين. يصفها بـ"حلبة الوقت الإضافي"، حيث يواجه آلام الجسد وتحديات العمر بزهد وقناعة، مؤكداً رغبته في عيش ما تبقى من حياته بهدوء، مركزاً على القراءة والكتابة. يتحدث عن الموت كـ"زائر غير مرغوب فيه" يتقبله دون فزع، ويجد في الأحفاد الجدد تأكيداً على انتصار الحياة.
مسيرة أدبية
يمثل "هامش أخير" رحلة في عالم شقير الأدبي، حيث يشرح الأسباب التي تدفعه للكتابة، قائلاً: "أكتب لنفسي أولاً، للتعبير عنّي ولإرضاء رغبتي في تحقيق ذاتي وأداء دوري في الحياة"، كما يكتب لشعبه ولكل إنسان محب للحرية والعدل، بهدف الدفاع عن قيم الحق والخير والجمال.
كشف الكتاب عن عالم محمود شقير الأدبي الثري، وعن شبكة العلاقات الفكرية والإنسانية التي شكلت مسيرته. يتحدث بإسهاب عن أعماله، وعن لقاءاته بشخصيات أدبية بارزة، ويولي اهتماماً خاصاً لغسان كنفاني ومحمود درويش اللذين تركا بصمة واضحة في وجدانه وإبداعه.
يمتد عالم شقير الأدبي على مدار أكثر من ستين عاماً، وقد تنوع إنتاجه بين القصة القصيرة والرواية والكتابة الساخرة وأدب الأطفال والفتيان. يعتبر مجموعته القصصية الأولى "خبز الآخرين" (1975) هي التي قدمته للقراء والنقاد، حيث يرى أنه من خلالها أدخل القرية الفلسطينية وشخوصها إلى حقل الأدب بتعاطف، مدافعاً عن الفقراء والمهمشين.
ورغم أن القصة القصيرة بقيت وفية له، فإن الرغبة في كتابة الرواية ظلت تلازمه منذ الستينيات. لم تتحقق هذه الرغبة إلا لاحقاً في أعمال مثل "فرس العائلة"، و"مديح لنساء العائلة"، و"ظلال العائلة"، التي شكلت ثلاثية روائية ترصد تحولات المجتمع البدوي الفلسطيني وصراعه مع الحداثة والاحتلال، كما لجأ إلى الكتابة الساخرة في مجموعات مثل "صورة شاكيرا"، و"ابنة خالتي كوندوليزا"، كوسيلة للتعبير عن "بؤس أحوالنا هنا في فلسطين، في ظل احتلال عنصري".
يحتل غسان كنفاني مكانة خاصة في ذاكرة شقير الأدبية، فهو يمثل التأثير الأول الذي شكل وعي جيله. يروي كيف تأثر هو وكتاب مجلة "الأفق الجديد" في القدس بأعمال كنفاني المبكرة، وخصّ بالذكر مجموعتَيه القصصيتَين: "موت سرير رقم 12"، و"أرض البرتقال الحزين"، فيما رأى في رواية "رجال في الشمس" أنّها شكلت المأساة الفلسطينية بشكل غير مسبوق.
ويذكر شقير أنه التقى كنفاني لأول مرة في بيروت، وتعرف من خلاله على أدب المقاومة في الأرض المحتلة العام 1948، وكتب لاحقاً كتاباً مكرساً لحياة غسان وأدبه، موجهاً للفتيات والفتيان.
وكانت علاقة شقير بمحمود درويش علاقة صداقة، رغم أنّ أياً منهما لم يعرف الآخر قبل العام 1967. التقيا لأول مرة في بيروت بعد أن ذاع صيت درويش عقب الهزيمة. يروي شقير تفاصيل لقائه الأول قائلاً: زرناه أنا والصحافي الفلسطيني المقيم آنذاك في بيروت، عيسى الشعيبي، في مكتبه في مجلة "شؤون فلسطينية"، ووعدته بكتابة مقالات للمجلة عن الحركة الثقافية في الأرض المحتلة.
دعا شقير درويش لاحقاً إلى سهرة ثقافية في بيته جمعت عدداً من الأدباء والمثقفين، هو الذي كان له فضل كبير في تحفيز شقير على خوض غمار الرواية، حيث يقول: أذكر أن محمود درويش حرّضني على كتابة الرواية بعد أن قرأ كتابي "ظل آخر للمدينة"، ووجد فيه سرداً يقترب من السرد الروائي على نحو ملحوظ، علماً أن العلاقة الأدبية بينهما تواصلت عبر مجلة "الكرمل" التي أسسها درويش، حيث نشر فيها شقير العديد من القصص والنصوص.
ويذكر شقير لقاءاته بشخصيات أدبية أخرى أثّرت في مسيرته، ففي دمشق، وخلال فترة دراسته الجامعية، التقى كتاباً سوريين بارزين مثل زكريا تامر، ياسين رفاعية، وغادة السمان، وفي بيروت تعرّف على الدكتور سهيل إدريس صاحب دار الآداب، والشاعر بلند الحيدري، فيما كان يخصص في نهاية كل فصل "تلويحة وفاء" لشخصيات وطنية وثقافية تركت أثراً في حياته، مثل: الشاعر حسين مهنا، والإعلامية فاطمة البديري، والمفكر نعيم الأشهب.
القدس والبلاد
تحتل القدس مكانة مركزية في حياة شقير وكتاباته. هي المدينة التي "شكلت حياتي وصاغت شخصيتي".. تظهر في أكثر من عشرين كتاباً له، ليس من باب القصد، بل كضرورة يفرضها منطق العمل الأدبي، كما يصف معاناتها منذ نكبة 1948 وتقسيمها، وانهيار مجتمعها، ومحاولات التهويد المستمرة التي تهدف إلى تحويل أهلها إلى أقلية هامشية.
منذ طفولته، تشكلت علاقة شقير بالقدس عبر رحلاته الأولى من جبل المكبّر إلى قلب المدينة بصحبة والده، هذه التجربة الأولية غرست فيه ارتباطاً حسياً بالمكان، وهو ما استحضر تفاصيله لاحقاً في كتاب "ظل آخر للمدينة"، هو الذي يصف القدس بأنها "حاضنة الروح، وهي التي تنعش قلبي ووجداني وتجعلني متمسكاً بأهداب الحياة".
هذا الارتباط لم يكن مجرداً، بل كان مهدداً بالخطر منذ البداية، حيث يروي كيف اضطر مع عائلته لمغادرة بيتهم في صيف العام 1948 تحت ضغط هجوم العصابات الصهيونية، وهو ما يصفه بـ"التغييب القسري". هذه التجربة المبكرة رسخت في وعيه حالة "الخوف من جراء العيش القلق في المكان"، حيث كان العدو على الحدود بعد احتلال الجزء الغربي من المدينة.
المفارقة أن البُعد عن القدس هو ما زاد من تعلّقه بها وقيمتها في وجدانه. بعد تجربته في السجون الإسرائيلية، ثم الإبعاد القسري الذي استمر ثمانية عشر عاماً، اكتسبت تفاصيل الحياة اليومية في المدينة معنى جديداً. يقول بأسى عميق: "وأنا بعيد عنها صرت أرى مجرد المشي في شوارعها أو الجلوس في مقاهيها ومطاعمها يكتسب قيمة أكيدة، ولا بد من الإكثار من ذلك وعدم ترك أي بقعة فيها من دون زيارة لها وتمعن في تفاصيلها"، لذا ظهرت القدس في أعمال شقير بأشكال مختلفة، فهي ليست مجرد خلفية للأحداث، إنّما شخصية محورية.
في النهاية، علاقة محمود شقير بالقدس هي حكاية كاتب فلسطيني يرى في مدينته امتداداً لذاته، وفي الكتابة عنها فعلاً من أفعال الوجود والمقاومة.
وترتبط سيرة شقير ارتباطاً وثيقاً بتاريخ القضية الفلسطينية. ولد خلال الحرب العالمية الثانية، وعايش النكبة وهو طفل، وعانى من الاحتلال والسجن والإبعاد. تنعكس هذه التجارب في كتاباته التي تصر على مقاومة محاولات المحو وطمس الهوية الفلسطينية. يقول: "أظن أنه كلما طالت معاناة الشعب الفلسطيني بسبب الاحتلال، والقتل والتهجير والتجويع، تأكدت حاجتي إلى التعبير عن مشاعري تجاه ما يحدث عبر الكتابة".
وفي هذا الجزء من سيرته، يتخلى شقير عن التسلسل الزمني التقليدي للأحداث، ما يمنح السرد حيوية وتدفقاً خاصاً، حيث ينتقل بسلاسة بين ذكريات الطفولة، ومسيرته الجامعية في دمشق، وعمله في الصحافة، وتجربته في السجن والمنفى، مُستخدماً ضمير المتكلم بشكل أساسي، ما يخلق حميمية مع القارئ.
يبرز في الكتاب لجوء شقير إلى الكتابة الساخرة كوسيلة لفضح "عنجهية المحتلين" وتعرّي "تخلّفنا وعناصر ضعفنا"، معتبراً إياها أداة لتوفير المتعة للقارئ، وتوصيل رسالة رافضة للاحتلال وممارساته.
"هامش أخير"، أكثر من مجرد سيرة ذاتية، إنه شهادة على عصر، وتأمل عميق في الحياة والأدب والوطن.. من خلاله، يقدم محمود شقير للقارئ خلاصة تجربة غنية، مكتوبة بلغة شفافة وجريئة، تترك أثراً باقياً في النفس.
0 تعليق