عاجل

"من النهر إلى البحر": شعريّات الإبادة ولغة الركام - الأول نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

 

كتب يوسف الشايب:

 

لا يمكن قراءة مجموعة الشاعر الفلسطيني سامر أبو هواش، "من النهر إلى البحر" (منشورات المتوسط)، بمعزل عن راهنها السياسي والتاريخي الدامي، فالعنوان نفسه، الذي يتجاوز كونه مجرد اسمٍ لعمل أدبي ليصبح شعاراً سياسياً ووجودياً، يضعنا مباشرة في قلب الصراع على الأرض والهوية.
يقدم أبو هواش ما يمكن تسميته "شعريات الإبادة"؛ نصوص كتبت من قلب المحرقة، لا تسترجع الماضي كذكرى، بل توثق الحاضر المستمر كجرح نازف، وتطرح السؤال الأعمق: كيف يمكن للغة أن توجد في عالم تنهار فيه الإنسانية؟
تتشكل رؤية الديوان القاتمة عبر ثلاثة محاور رئيسية تتكرر وتتشابك لتخلق مشهداً شعرياً متكاملاً عن فاجعة الوجود الفلسطيني، أولها "جغرافيا الركام"، فالمكان في المجموعة ليس أرضاً أو وطناً بالمعنى التقليدي، بل "أنقاض"، و"خرائب".
تبدأ المجموعة بقصيدة "الأنقاض" التي تخاطب القارئ القادم من بعيد: "يا مَنْ تطأ قَدَمَاه/ هذه الأرض الخراب/ تمهل قليلاً/ ثمة طفلة/ يدها ممدودة/ من بين الشقوق". هذا المشهد الافتتاحي يؤسس لجغرافيا العمل كله؛ أرض تحولت إلى حطام، والحياة فيها ليست إلا بقايا هشة تتشبث بالوجود.
المحور الثاني يدور في محيط "الطفل كشاهد وضحية مطلقة"، حيث يحتل الطفل مركز الصدمة في المجموعة.. إنه ليس مجرد رمز للبراءة المفقودة، بل الشاهد الأخير الذي تحمل عيناه حقيقة تتجاوز الأجيال.
في قصيدة "نظرات أطفالنا بين الخرائب"، تكون هذه النظرات "دائماً شاخصة/ دائماً ثابتة/ دائماً واضحة/ دائماً صوب نهايات/ لم يرها أحد" .. عيون الأطفال هنا هي مرآة الحقيقة التي تفضح زيف من ادعوا "أنهم رأوا الضوء". إنها عيون "حزينة ميتةً ساخرة" تحدق فينا وفي القتلة "من خلف القرون"، حاملةً معها ذاكرة الألم كلها.
أما ثالث المحاور فيتكرس في "الوحش كاستعارة للمحتل"، ففي مواجهة براءة الطفل، يستدعي أبو هواش عالماً حيوانياً متوحشاً لوصف القوة المدمرة.. في قصيدة "الضباع"، تصبح آلة الحرب ضباعاً ضاحكة "في ليلها المعدني" ، "تلتهم الأيدي الأقدام القلوب الوجوه". هذه الصورة الوحشية ليست مجرد استعارة، إنّما هي تجسيد لتجربة الضحية التي ترى في جلادها كائناً متجرداً من الإنسانية، قوة عمياء لا منطق لها سوى "شهوة القتل"، و"الانتصار النهائي/ على دمية ما زالت تتشبث بيد طفل".
بالإضافة إلى الثلاثية المحورية (الركام، والطفل، والوحش)، يمكن رصد محاور إضافية لا تقل عنها عمقاً، تعمل كطبقات سفلية تعزز البنية الفكرية والشعورية للمجموعة، كأزمة اللغة وانهيار المعنى، حيث لا يكتفي سامر أبو هواش بوصف الفجيعة، بل يغوص في أزمة اللغة نفسها أمام هول ما يحدث. المجموعة بأكملها شهادة على عجز الكلمات عن الإحاطة بالإبادة، وهذا المحور هو الأكثر عمقاً على الصعيد الفلسفي في المجموعة.
كما تعاطى الشاعر مع القصيدة كـ"فعل فشل"، وتجلّت هذه الأزمة بوضوح في القصيدة الطويلة "جالساً أمام التلفزيون أشاهد الإبادة"، حيث يبني أبو هواش نصه بالكامل على لازمة متكررة وموجعة: "أردت أن أقول...". كل مرة، يحاول استدعاء مفهوم كبير (الرحمة، والحزن، والجريمة، واليأس، والذاكرة، والتاريخ)، لكن الكلمة نفسها تتفكك وتنهار قبل أن تكتمل، عاجزة عن حمل ثقل المعنى. هذا ليس مجرد أسلوب، إنما أداء حيّ لانهيار اللغة أمام واقع يتجاوز قدرتها على الوصف.. هنا تصبح القصيدة نفسها "جثة" للغة، وشهادة على فشلها.
وحين تفشل اللغة السردية، لا يتبقى سوى الاسم المجرد، لذا يبرز الاسم كبقية أخيرة.. في قصيدة "من النهر إلى البحر"، يتحول النص إلى قائمة لا نهائية من الأسماء والأشياء المهددة بالفناء: "كل شارع، كل بيت.. كل "يابا"، كل 'يمة'.. كل اسم، كل اسم، كل اسم...". هذا الجرد الأرشيفي محاولة يائسة للإمساك بالوجود عبر تسميته، وكأن الشاعر يقول: إذا لم أستطع أن أروي القصة، فعلى الأقل سأحفظ الأسماء قبل أن تُمحى.
ويتجاوز الشعور بالخذلان في المجموعة حدود السياسة ليصل إلى بعد وجودي وكوني. هناك إحساس عميق بأن هذا الشعب تُرك وحيداً ليس فقط من قبل العالم، بل من قبل نظام كوني أو إلهي يبدو صامتاً، وكأنها حالة حب من طرف واحد مع العالم، ففي قصيدة "لم يَعُدْ مُهمَّاً أن يُحبَّنا أحدٌ"، يصل هذا الشعور إلى ذروته. يقول الشاعر إن الحب الذي كانوا يظنونه متبادلاً مع العالم كان مجرد وهم: "يبدو، على أي حال، أنَّه كان حُبَّاً من طرف واحد". هذا الاعتراف المرير يمثل استغناءً كاملاً عن أي أمل في تعاطف خارجي، وينتهي بصرخة الشاعر الساخرة لمحمود درويش: "أنقذونا من هذا الحب القاسي"، ليتبعها بالهمس: "ليس على هذه الأرض ما يستحق الحياة".
ولا تغيب "هويّة الشتات" عن المجموعة، ففي قصيدة "أهلي" تعرّف الهوية الفلسطينية بأنها هوية الشتات المطلق. هم لم يأتوا من مكان محدد، بل "تساقطنا كالغُبارِ من نجمة ميتة/ بمحض مُصادفةٍ فَلَكِيَّةٍ". إنهم يعيشون على أرض "قيل لنا ليست أرضنا"، وقد "أهملت ذكرنا الكتب". هذا الشعور بالتيه ليس مجرد حالة سياسية، إنّما حالة وجودية عميقة، إحساس بأنهم كائنات طارئة على هذا الكوكب.
وعندما تُدمّر الجغرافيا وتنهار اللغة، يصبح الجسد، خاصة جسد الطفل، الخريطة الوحيدة التي تُنقش عليها حقيقة الألم، والشاهد المادي الأخير على الجريمة.
وهنا نرى الجد الذي يولد من حفيدته، ففي واحدة من أجمل قصائد المجموعة وأكثرها إيلاماً، "المدينة الأخيرة (رُوحُ الرُّوحِ)"، يرثي الشاعر حفيدته. هنا، ينقلب منطق الولادة والحياة. الجسد الصغير للطفلة لا يعود مجرد جثة، بل يصبح هو الأصل الذي يولد منه الجد الشاعر: "أيولَدُ جَد من حفيدته/ مثلما تُولَد ياسمينة من عطرها؟". في هذه الصورة، تصبح الطفلة هي الأصل، والجد هو الامتداد، في علاقة تراجيدية يعاد فيها تعريف معنى الحياة والموت.
ونرى أيضاً الجثة كرحلة لا تنتهي، ففي قصيدة "جثث صغيرة"، تتحول الجثث من كونها نهاية الحياة إلى بداية رحلة أبدية في عالم آخر. "وإلى أين ترحل الجثث الصغيرة؟" يسأل الشاعر، ليجيب بأنها "تُواصِلُ الزَّحفَ في المدن، بين القارات، عبر الغابات". هذه الجثث لم تعد كائنات سلبية، أصبحت فاعلة في عالمها الخاص، تقود بعضها بعضاً وتستمر في رحلة لا مرئية، شاهدةً على عالم الأحياء الذي تخلى عنها.
ونجح أبو هواش في خلق إيقاع شعري وموسيقى داخلية، حيث التكرار المنتظم للكلمات أو التراكيب خلق إيقاعاً يشبه الأنشودة أو الصلاة أو التعويذة، ما منح النص قوة تأثير سمعية تجذب القارئ وتأسره، هذا علاوة على التكثيف والتضخيم، فعندما يسرد الشاعر قائمة طويلة من الآلام، أو الذكريات، أو الأشياء المفقودة، فإنه يضخم الشعور بحجم تلك الخسارة، فبدلاً من أن يقول "فقدنا كل شيء"، يقوم بسرد كل شيء بالتفصيل، ما يجعل الفقد ملموساً وساحقاً.
ولا يمكن إغفال صنع الأثر التراكمي في المجموعة، فكل عنصر جديد في القائمة يضيف ثقلاً على ما قبله، ما يخلق شعوراً متصاعداً لدى القارئ بالفيض أو الإرهاق أو الرهبة، وهو غالباً ما يعكس الحالة النفسية للشخصية أو للشاعر نفسه، إضافة إلى نجاحه في وظيفة الأرشفة والشهادة، ففي سياقات سياسية أو تاريخية، تصبح "الليتانيا" (سلسلة متتالية من العبارات، الصور، الأسماء، أو الصفات التي تُسرد في شكل قائمة أو تكرار منظم)، كما في سياقها الروحاني، وسيلة للتوثيق والأرشفة ضد النسيان، فعبر تسمية كل شيء مهدد بالمحو (أسماء القرى، تفاصيل الحياة اليومية، أسماء الضحايا)، تتحول القصيدة إلى نصب تذكاري لغوي.
ويتميز أسلوب سامر أبو هواش في هذا الديوان بعدة خصائص تجعل منه تجربة متفردة، من بينها: شعرية اللقطة الخاطفة، حيث يعتمد الشاعر على بناء قصائده من صور مجتزأة ومكثفة، تشبه اللقطات السريعة والمتقطعة التي نراها في نشرات الأخبار، والإيقاع المتهدج، خاصة عندما يستخدم الشاعر جملاً قصيرة جداً، وأحياناً كلمات مفردة في السطر الواحد، ما يخلق إيقاعاً لاهثاً ومتهدجاً، يحاكي أنفاس الهارب تحت القصف أو شهقة المصدوم أمام الشاشة، وبلغة مباشرة وجارحة، بعيداً عن الزخارف البلاغية والمجازات المعقدة، لكنّها صادمة في بساطتها، بحيث ترفض تجميل الواقع أو "أدبنته"، وتصر على تقديم الحقيقة في عريها القاسي.
في خلاصة القول، يتجاوز ديوان "من النهر إلى البحر" للشاعر سامر أبو هواش كونه مجرد مجموعة شعرية ليرتقي إلى مستوى الشهادة الصارخة والمؤلمة على لحظة تاريخية مفصلية. إنه ليس شعراً يُكتب عن الفجيعة من مسافة الذاكرة، بل نص يولد من رحم الإبادة المتلفزة، شاهداً على انهيار اللغة والأخلاق والمعنى في مواجهة واقع يتجاوز كل قدرة على الوصف.

 

0 تعليق