في الوقت الذي تسير فيه مجريات اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة وفق ما جاء في خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، يجد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو نفسه أمام مشهد سياسي مختلف تتشابك معطياته لتجعل من الصعب عليه المراوغة والتحايل.
وبعد إتمام عملية تبادل الأسرى التي تعتبر أهم بنود خطة ترامب، نقلت القناة 12 الإسرائيلية عن نتنياهو -المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية– قوله إن "الحرب انتهت".
وتتوافق هذه التصريحات مع ما أعلنه ترامب على متن الطائرة الرئاسية قبل وقت قصير من وصوله إسرائيل بأن "الحرب في غزة انتهت"، وذلك ردا على سؤال صحفيين بشأن عدم اعتراف نتنياهو بعدُ بانتهاء الحرب في غزة.
قدرة على المراوغة
لكن قبل ذلك، يكشف سلوك نتنياهو حيال الاتفاقيات السابقة عن قدرة كبيرة على المراوغة في مساحات ضيقة، وهو ما يبعث على الحذر من تكراره هذا الأمر في هذه المرة.
يبدو من الصعوبة بمكان عودة نتنياهو إلى تلك السياسات بفعل الزخم الذي خلقه هذا الاتفاق، سواء من خلال خطة ترامب، أو الغطاء الذي وفرته 8 دول عربية وإسلامية، أو طريقة تعاطي حركة حماس مع الخطة، فضلا عن مؤتمر شرم الشيخ الذي أعلن أن الاتفاق يعد إنهاءً للحرب.
لكن في المقابل، فإن نتنياهو يملك مبررات لاستئناف الحرب إن عزم على ذلك، أهمها تحرره من ورقة الأسرى الإسرائيليين التي كانت تشكل ضغطا عليه من قبل الجمهور الإسرائيلي لوقف الحرب من أجل استردادهم.
فالانقسام داخل إسرائيل لم يكن حول مبدأ الحرب، بل حول استمرارها في ظل وجود أسرى لدى المقاومة، ولذلك كان يطالب بإعادتهم ولو كان الثمن وقف الحرب.

الموقف الشخصي لترامب
ساهم الموقف الشخصي للرئيس الأميركي بشكل كبير في التوصل للاتفاق، ومارس ضغوطا على كل الأطراف بمن فيهم الجانب الإسرائيلي، وتقول صحيفة واشنطن بوست بهذا الصدد إن "نتنياهو بدأ يتكيف مع الواقع السياسي الجديد"، فهو يواجه ضغطا من "حليفه القوي ترامب للإبقاء على السلام".
إعلان
وتنقل الصحيفة في مقالها عن السفير الإسرائيلي الأسبق في واشنطن، مايكل أورين، قوله إن إغضاب الوزيرين إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، وحتى المخاطرة بانهيار الحكومة، قد يكون خيارا أفضل لنتنياهو من مواجهة غضب ترامب إذا أفسد عملية السلام.
وتضيف أن نتنياهو يجد نفسه أمام مشهد سياسي مختلف عن الاتفاق الذي عقده بداية العام، فترامب يبدو أكثر التزاما بتحقيق السلام وتعزيز صورته كصانع سلام، بينما خسر الوزراء المتشددون في حكومة نتنياهو جزءا من نفوذهم السابق.
وفي إسرائيل، يقول محلل الشؤون الحزبية في هآرتس يوسي فيرتر إن الرئيس الأميركي أنقذ إسرائيل من رئيس حكومتها نتنياهو، ومن انتحار سياسي، بعدما ضاق ذرعا بالمماطلات والتسويف، وقرر فرض اتفاق لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى.
وأضاف أن ترامب لم يكتفِ بالضغط، بل "أملى على نتنياهو" وقف العمليات العسكرية في غزة، وبدء مفاوضات تحت رعاية مصر وقطر وتركيا، بمشاركة السلطة الفلسطينية.
أما نيويورك تايمز، فتقول "إن السؤال يبقى: ما الذي دفع نتنياهو إلى اتخاذ قرار يناقض ميله الدائم إلى المماطلة والموافقة على ما كان يرفضه بشدة؟ الجواب ببساطة: ترامب".
ونقلت واشنطن بوست عن الأمين العام للمبادرة الوطنية الفلسطينية مصطفى البرغوثي قوله إن مشاركة ترامب الشخصية "تمنح الاتفاق مصداقية أكبر من أي وقت مضى، إذ سيكون هو من يعلن الهدنة رسميا مستخدما سمعته السياسية". لكنه مع ذلك "ما زلنا حذرين بسبب ألاعيب نتنياهو، فهو معروف بالمناورة".
وربما من المفارقة الإشارة إلى تصريحات ناداف شتروخلر، المستشار السابق برئاسة الوزراء الإسرائيلية، التي يقول فيها "مع احتفال الإسرائيليين باتفاق وقف النار، بدا شيء واحد واضحا: أن الشخصية الأكثر شعبية في إسرائيل حاليا هي ترامب"، مضيفا أنه "لا يوجد من هو أفضل من ترامب لقيادة حملة نتنياهو الانتخابية".

ضمانات أميركية
وفي سياق الموقف الأميركي أيضا، كشفت مصادر مطلعة للجزيرة نت أن حركة حماس تلقت ضمانات شفهية من الولايات المتحدة بأن إسرائيل لن تستأنف الحرب بعد إطلاق سراح الأسرى.
ويضيف المصدر أن الحرب بصورتها الحالية انتهت، "لكن السيناريو اللبناني سيكون حاضرا إذ لن تكف إسرائيل عن ملاحقة عناصر الحركة وربما تنفذ عمليات خاصة في العمق".
من جهته، يرى الكاتب والباحث ساري عرابي في حديثه للجزيرة نت أن العامل الوحيد الذي يمنع بنيامين نتنياهو في الوقت الراهن من التهرب من هذا الاتفاق والعودة إلى حرب الإبادة واستكمال خطة احتلال مدينة غزة وتدميرها هو موقف الولايات المتحدة.
وتطرح صحيفة نيويورك تايمز في مقال بعنوان "الحقيقة المزعجة حول انتصار نتنياهو" تساؤلات عن الشكوك التي لا تزال تحوم حول ما إذا كان وقف إطلاق النار سيصمد، وكيف ستنتقل الأطراف إلى القضايا الأكثر تعقيدا ضمن الخطة التي رعتها الولايات المتحدة، وتقول إنه "مع كل ذلك، يبدو واضحا أن هذا الاختراق يمثّل بداية النهاية".
قمة شرم الشيخ
من المتوقع أن تسهم نتائج القمة الدولية بشأن اتفاق لإنهاء الحرب في غزة، التي عقدت مدينة شرم الشيخ المصرية بحضور أكثر من 20 زعيما، منهم الرئيس الأميركي في حشد دعم دولي إضافي لخطة السلام في غزة.
إعلان
ويرى مراقبون أن انعقاد القمة وزيارة ترامب لمصر وتوقيع وثيقة الضمانات من قبل الوسطاء في شرم الشيخ ستضفي مزيدا من الثقل إلى الاتفاق، وستحد من قدرة نتنياهو على القيام بمناورات.
ونصت الوثيقة على أن الدول الموقعة (الولايات المتحدة وقطر ومصر وتركيا) ترحب بالالتزام التاريخي الحقيقي والتنفيذ من قبل جميع الأطراف لاتفاق السلام الذي تم التوصل إليه برعاية الرئيس الأميركي "والذي وضع حدا لأكثر من عامين من المعاناة العميقة والخسائر، ويفتح فصلا جديدا للمنطقة عنوانه الأمل والأمن والرؤية المشتركة للسلام والازدهار".
وتعهد الموقعون بالعمل على حل النزاعات المستقبلية من خلال الحوار الدبلوماسي والمفاوضات، لا من خلال القوة أو الصراع المطول.
" frameborder="0">
عزلة إسرائيل
على الساحة الدولية، تواجه إسرائيل عزلة متزايدة، وسيسهم الحراك الدولي المناهض لإسرائيل وحربها على قطاع غزة في استمرار هذه العزلة في حالة استئناف الحرب.
وتشكل محاولات الاحتلال تبيض صورة إسرائيل الدولية عاملا مساهما في كبح أي مناورات لنتنياهو في التملص من التزاماته بالاتفاق.
ويقول الباحث ساري عرابي إن إسرائيل تحتاج إلى فترة تعاف من تبعات الحرب التي استمرت سنتين وأرهقت الاقتصاد والمجتمع رغم الدعم الأميركي الضخم، الذي تشير تقديرات غير رسمية إلى أنه بلغ نحو 100 مليار دولار.
وتابع هذا الدعم ليس مضمون الاستمرار، كما أن قدرة الاحتلال على احتواء الأضرار الاقتصادية ليست مضمونة.
حالة الأمن
وفي الداخل الإسرائيلي، أعربت المؤسسة الأمنية "المنهكة" عن معارضتها لمواصلة الحرب في غزة، إضافة إلى وجود تحفظات في صفوف الجيش ناتجة عن الإنهاك الكبير الذي أصاب قواته وانعدام الرؤية السياسية لمستقبل غزة.
ويرى عرابي أن تخوف المؤسسة العسكرية من تحول جيش الاحتلال إلى قوة شرطية تطارد الفلسطينيين داخل القطاع، سيكبح جماح نتنياهو في التفكير بدور آخر من المراوغة.
وتشير صحيفة نيويورك تايمز إلى أن الافتراض السائد في إسرائيل بشأن "الحقيقة المزعجة هي أن هذا الانتصار هو في جوهره هزيمة لرؤية الحكومة المتمسكة بنزعتها التوراتية، ولذا فإن الاتفاق يناقض تماما ما روّجت له الحكومة الإسرائيلية خلال العامين الماضيين بشأن وعد الانتصار الكامل والقضاء على حماس".
ولطالما رفض نتنياهو أي اتفاقات لوقف إطلاق النار، معتبرا إياها استسلاما لحماس والإرهاب، ومصمما على تحقيق النصر التام، وقد تعهّد وزراؤه بتدمير القدرات العسكرية لحماس وإنهاء حكمها في غزة إلى الأبد.
كما رسمت حكومة الاحتلال صورة لتحوّل غزة بعد الحرب، وعمليات التهجير الجماعي للفلسطينيين، وكانت الخطة تتضمن إعادة احتلال غزة وبناء المستوطنات الإسرائيلية فيها، وهي صورة تهاوت بفعل صمود الشعب ونسف هذا الاتفاق كل بنودها، وفوق هذا كله فالاتفاق لا يمكن أن يؤدي إلى تدمير حركة حماس، فكيف سيتجرع نتنياهو واليمين المتطرف هذه الحقائق.
عودة الحرب
يحرص نتنياهو على إبراز أن الاتفاق تم فقط على المرحلة الأولى، بينما لا تزال البنود الأكثر حساسية، مثل انسحاب إسرائيلي كامل ونزع سلاح حماس وإدارة دولية للقطاع، قيد التفاوض مع الولايات المتحدة.
ومع وجود تعقيدات كبيرة وعدم وضوح تام لآليات تطبيق المراحل التالية من خطة ترامب، فإنه لا يمكن إسقاط احتمال عودة الحرب من الحسابات، خاصة أن تمركز جيش الاحتلال داخل قطاع غزة يمنحه فرصة للقدرة على تنظيم صفوفه وحشد قوته لاستئناف الحرب، وإن كان ذلك ليس بالضرورة بالشكل الإبادي الواسع، بل ربما بشكل عسكري مكثف أو محدود.
ومن المرجح أن يسعى الاحتلال إلى تحقيق أهدافه الأمنية والعسكرية دون اللجوء إلى حرب شاملة، عبر أدوات أخرى مثل التحكم في المعابر، ورفع أو إعادة فرض الحصار، والتحكم في إدخال المساعدات وإعادة الإعمار، إضافة إلى تنفيذ عمليات عسكرية خاطفة أو اغتيالات موضعية، كما يذكر عرابي.
إعلان
وما دام أن هذه الوسائل تحقق لإسرائيل أهدافها، ومع وجود محاولات إقليمية ودولية لإحياء ما يسمى بـ"المسار الإبراهيمي" أو التمهيد لصفقة سياسية إقليمية شاملة، فإن نتنياهو قد يجد في هذا السياق فرصة لإعادة تقديم نفسه لمجتمعه المحلي وللعالم.
0 تعليق