غزة- بين مراكز الإيواء وأزقة الخيام بمدينة غزة، تتجوّل الممرضة الستينية فيزا شريم، بخطى متعبة وحقيبة طبية بالية، تتفقد وجع الأمهات، وتواسي الأطفال المرضى.
صوتها منخفض لكنه حاسم، وملامحها التي أثقلتها السنوات والحروب تحاول أن تبقى صلبة كقلبها الذي لم يعرف يوما التراجع، ففي إحدى الزوايا، تجلس بجوار سيدة أنهكها المخاض، وفي زاوية أخرى تطمئن على طفل يرتجف من الحمى.
اقرأ أيضا
list of 2 items end of listالحكيمة فيزا، أو كما يناديها الناس "أم صالح"، ليست فقط ممرضة أو قابلة.. بل أم للجميع، وملاك للولادة وسط الجنازات، ورغم تقدمها في العمر وإحالتها للتقاعد لم تتوقف عن العمل في توليد النساء طوال عامين من الحرب على غزة.
تقول بحزم "من رحم القصف.. يولد الأمل، وأنا أقف هنا حتى لا تموت الإنسانية".

ولادة تحت النيران
في إحدى ليالي الاجتياح شمال غزة، حيث السماء تمطر نارا، والأرض تغلي تحت أقدام الهاربين من القصف، تروي جزءا من حكاياتها للجزيرة نت "جاء رجل يصرخ من بعيد، يلهث بين شظايا الطرق المقطوعة: الحقيني يا أم صالح! زوجتي بتولد لحالها، وإحنا محاصرين!".
في منطقة نائية لا مستشفى فيها، ولا عيادة، ولا حتى جار يطرق الباب، وقف الرجل عاجزا أمام الولادة والموت معا، فركض نحو أقرب أمل.
لم تتردد أم صالح، التي اعتادت أن تكون في المكان الأشد احتياجا، فأمسكت حقيبتها واصطحبت معها ابنها وانطلقت، كانت الطائرات ترصد كل حركة، القصف عشوائي، والخطر في كل زاوية، تهمس لنفسها "أشهد أن لا إله إلا الله… يا رب، أنا رايحة لخدمة إنسانية، احمينا يا الله".
تروي بصوت ثابت "حملت روحي على كفي، كنت أعرف أنني قد لا أعود، لكن ترك تلك المرأة وحدها كان جريمة إنسانية لا أحتملها".
تتابع "وصلتُ أخيرا، ولم يكن البيت بيتا، بل غرفة نصف مهدمة، والسيدة الحامل تنتظر بصمت مؤلم، تجلس على كرسي خشبي مكسور، جسدها يرتجف، وصرخة الولادة تسبقها، وبعد دقائق، جاء صراخ المولود يعلو فوق أصوات الانفجارات، حينها ابتسمت فيزا، وربّتت على كتف الأم: ابنك وصل سالم.. رغم كل شيء، لسه في حياة".
إعلان
وما زالت تتذكر المواقف التي حُفرت في الذاكرة "مرة إجتني امرأة من منطقة حدودية، تقول: أختي بتولد يا أم صالح وما في إسعاف، مشينا سوا في منطقة مكشوفة للطيران، كنت أشعر بأنني ماشية للموت، بس كنت أقول: أتركها؟ مستحيل، ومشيت معها أكثر من كيلومتر وسط الظلام والخوف والركام".
"فرشتُ الأرض، وبدأت بإتمام إجراءات الولادة في تلك الظروف القاسية، أتممتها بفضل الله، وقدّمت للأم والطفل ما استطعت من رعاية نفسية وطبية،" تروي أم صالح، وعيناها تلمعان.
هكذا تحوّلت فيزا من ممرضة إلى قابلة، ثم إلى مسعفة ميدانية تعمل في أخطر مناطق قطاع غزة، لا تحميها سترة، ولا يرافقها حارس، فقط نية طاهرة بأن كل حياة تستحق الفرصة.
زوجها كان سندها، يدعمها ويشجعها على خدمة النساء، ليمنحها القوة للاستمرار رغم المخاطر، كما تقول.
وجع الأم المكلومة
وبين كل الحروب السابقة والاجتياحات التي خاضت غمارها بين الرعاية الطبية والإسعافات الأولية، إلا أن حرب الإبادة الأخيرة لم تترك فيزا إلا وقد أخذت منها نصف روحها.
استشهدت ابنتها الحامل مع طفلتيها و23 فردا من عائلة زوجها في غارة واحدة، تلاهم بعد أشهر، استشهاد ابنها الأول، ثم الثاني، ليس ذلك فحسب، فصواريخ الاحتلال خطفت أيضا زوج ابنتها الصغرى، ثم زوج ابنتها الأكبر.
تستذكر بحرقة والدموع تنهمر من قلبها قبل عينها "أكثر شيء قهرني، إنهم راحوا وأنا ما قدرت أقولهم مع السلامة، ولا حتى أدفنهم بإيدي".
تكرر نزوحها 13 مرة، من بيتٍ إلى خيمة، لكنها من ركام إلى مخيم، تحمل حقيبتها، وتبدأ من جديد، فهي لم تكن فقط ممرضة أو قابلة أو مسعفة، بل "أمًّا لكل النازحات، وصدرا حنونا لمن فقدت زوجها، أو ولدت دون أن تجد من يقطع الحبل السري عنها".
تتابع "إني أولِّد في خيمة، في عربة، في ساحة مدرسة، أو في سيارة إسعاف.. ما يهمنيش المكان، المهم أن الحياة تكمل".
كانت ترى في كل طفل تُعالجه وجه أحد أحفادها، وفي كل أم تولّدها، ابنتها التي تنتظر الفرج وسط الألم.
تكمل بهمس "جاءت ابنتي لتلد بعد 3 أيام من استشهاد زوجها، كانت لا تقوى على النهوض، جلستُ بجانبها أمسك يدها، وأقول لها: اصبري… من أجل طفلتك القادمة ومن أجل أبنائك".
لكن مأساة أخرى لم تنتظر، تحكي فيزا "ابنتي الكبرى كانت حامل، وعلى وشك الولادة وجاءها المخاض قبل الفجر، وتأخر الإسعاف، ولما وصل، لم يكن هناك وقت للوصول إلى المشفى، في الطريق وداخل سيارة الإسعاف، وبيدي المرتجفتين من شدة البرد أثناء تساقط المطر، قمت بتوليدها، كانت تحمل توأما، سمعت أولى صرخاتهم، وابتسمت".

40 عاما من العطاء
ولدت فيزا شريم في بيت حانون عام 1960، التحقت بكلية التمريض عام 1979، لتبدأ مسيرة امتدت أكثر من 4 عقود في مستشفى الشفاء وغيرها، حيث أسست قسم القبالة والولادة، ليصبح القسم الوحيد الذي يخدم النساء في غزة.
وحين شلّ الحصار عمل المستشفيات، فتحت غرفة ولادة في منزلها، حيث كانت تولِّد بين 30 إلى 45 طفلا شهريا لمدة 10 سنوات دون مقابل، ضامنة ولادة آمنة لكل أم وطفل.
إعلان
أم صالح متزوجة، أم لـ13 ابنا، استشهد 3 منهم خلال حرب الإبادة على قطاع غزة 2023-2025 وأُسر أحدهم، وجدة لـ53 حفيدا، استشهد 3 منهم، لكنها بقيت صامدة، لا تعرف الاستسلام، ولا يسمح قلبها أن يتوقف عن خدمة الإنسانية.
حصلت على جائزة الممرضة المثالية (2000 و2002)، وجائزة "مبدعون رغم الحصار"، والجائزة الدولية لصحة وكرامة المرأة من مؤسسة "أميركيون من أجل صندوق الأمم المتحدة للسكان"، ومقرها الولايات المتحدة، لتصبح نموذجا عالميا في خدمة النساء وسط المخاطر المحدقة.
فيزا شريم، سيدة غزة وأيقونة الصبر، تجسد التفاني الذي لا يعترف باليأس، ففي وسط الموت والدمار، زرعت الأمل، وأكدت أن العطاء الإنساني أقوى من أي قصف أو حزن، وأن الحياة تظل الأغلى، مهما كانت التضحيات.
0 تعليق