السبت 25 أكتوبر 2025 | 04:39 مساءً

بسام عبد السميع
هناك لحظات تستدعيك رغما عنك وتحسبها قهرا او تبدلا في السير لكنها رحمة الإدراك ولطف من الحكيم العليم، فتدرك ان الروح كتاب، تُقلب صفحاته بأنامل الصدق، ويُضاء حبره بوميض الخضوع. وكل إيمان سطر، وكل توبة نور بين السطور، وكل دمعة في خلوة حرف لا تكتبه يد، بل تهمس به السماء.
وفي كتاب الروح ، لا تُمحى الصفحات القديمة، بل تبقى شاهدة علينا، تُعيد قراءتنا كلّما توهمنا أننا تغيّرنا. فالروح لا تنسى، فقط تُسامح.
أما الجسد، فكتابٌ آخر : صفحاتُه تُطوى بعجلة الزمن، تغويه المقارنة فيفسد المعنى، ويقرأه صاحبه حتى يحترق الحبر في قلبه.
هو غلافُ الوجود، لا جوهره، ساحةُ امتحان لا ميدانُ خلود.
كل ما به يذبل إلا ما صَدَق، وكل ما فيه يتكرر إلا ما نوى وجه الله.
والعمر؟
مجرد حروف تتساقط من ساعة الرمل، لحظات تمضي أسرع من الوقت، ومضات وعي تنطفئ قبل أن تدرك تمام النور.ًنحسب أننا نعيشها، وهي في الحقيقة من تعيشنا،
تقتات من وعينا كل يوم، ثم تمضي.
الرحمة إذًا ليست عاطفة، بل إدراكٌ قبل الرحيل، وانتباهٌ قبل أن يُطوى الكتاب.
أن تفهم أنك كنت تستطيع أن تكون أرحم، أنقى، أصدق… قبل أن يفوت الأوان.
فالرحمة ليست فقط تجاه الناس، بل تجاه نفسك أيضًا،
تجاه قلبك الذي أنكرت عليه ضعفه، وتجاه ذاكرتك التي سجنتها في ماضيها.
وما رميتَ في كتابك من خير أو صدق أو حسد أو غفلة،
هو زادك حين تُعاد القراءة أمام الحق.
سيُعاد فتح الكتاب، لا ليدينك، بل ليُريك من كنتَ فعلًا،
في اللحظات التي ظننتَ أنك وحدك.
كل ما في الوجود مهلة: مهلةٌ للتوبة، للتفكر، للتذكّر، مهلةٌ لتصحيح النية، لتضميد الذاكرة، لاجتياز الاختبار، للنجاح بيقين التوكل، للتواضع بحكمة الضعف ، ولتقول في صمتك ما عجز لسانك عن قوله.
وهذا الذي أكتبه الآن، ليس إلا بوحًا من البوح، صدى روحٍ تقرأ نفسها قبل أن تُكتب، تراجع ما سطرته الأيام عليها،
وتسأل في خشوعٍ: هل ما كُتب فيَّ يُرضي الذي كتبني.

0 تعليق