ماذا سيحدث في تركيا بعد انسحاب العمال الكردستاني؟ - الأول نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

أجرينا حوارا مطولا، يُمكن وصفه بالتفصيلي، مع مسؤول أمني رفيع المستوى تابع من كثب مجريات الأمور منذ البداية، وذلك قبل يوم واحد فقط من إعلان حزب العمال الكردستاني (PKK) انسحابه من تركيا. وقد كان الرجل يبدو مرتاحا، وسعيدا باستمرار مشروع "تركيا بلا إرهاب".

في الواقع، قد لا يدرك القرّاء خارج تركيا مدى أهمية وتأثير قرار حزب العمال الكردستاني بترك السلاح والانسحاب من تركيا، وهو التنظيم الذي أرهق البلاد لأكثر من أربعين عاما.

فإنهاء إرهاب تسبب في مقتل عشرات الآلاف من الأبرياء، ونزع السلاح من يد تنظيم دموي، وتهيئة مناخ للسلام، ليست أمورا سهلة في تركيا، خصوصا في مجتمع وطني حساس شهد آلاف القتلى على يد تنظيم لطالما وُصف بأنه "قاتل الأطفال".

صحيح أن الشعب التركي يدعم عملية السلام، لكنه لا يزال لا يثق بالتنظيم. أما من يجلس أمامي الآن، فهو الشخص الذي يدرك هذه الحقيقة أكثر من أي أحد، ويشعر بثقلها على كاهله بعد الرئيس رجب طيب أردوغان. ذلك أنه يدرك تماما أن فشل هذه المحاولة الثانية لإنهاء الإرهاب سيُحمَّل له شخصيا، كما أن إخفاقها سيُلحق ضررا بالغا بالبلاد، ولهذا يسير بحذر بالغ في إدارة هذا المسار.

ماذا يعني انسحاب حزب العمال الكردستاني من تركيا؟

في الحقيقة، حققت تركيا نجاحا مهما في مكافحة الإرهاب، بفضل تقدمها في مجالات التكنولوجيا والصناعات الدفاعية.

فمنذ خمس أو ست سنوات تقريبا، تلقى تنظيم PKK ضربات قاسية داخل تركيا، واضطر للتراجع إلى ما وراء الحدود العراقية، بل إنه عجز عن تنفيذ أي هجمات بفضل القواعد العسكرية التركية التي أُنشئت على عمق 30 إلى 50 كيلومترا داخل الأراضي العراقية.

ومع ذلك، فإن فصيلا من داخل التنظيم، في محاولة لإثبات أن PKK لا يزال قادرا على تنفيذ عمليات، استهدف منشأة دفاعية تابعة لشركة الصناعات الجوية والفضائية التركية (TUSAŞ) العام الماضي، ما أسفر عن مقتل خمسة أشخاص. وقد فُهم هذا الهجوم على أنه محاولة لتقويض عملية "تركيا بلا إرهاب"، لكنه لم يحقق مبتغاه.

التأكيد على زعامة أوجلان

ولتجنّب تكرار مثل هذه الأعمال الاستفزازية، أعلن التنظيم سحب ما تبقى له من عناصر مسلحة داخل تركيا بشكل كامل، في إشارة واضحة إلى التزامه بالعملية الجارية. وقد شدد على ذلك القيادي البارز في PKK، صبري أوك، خلال تلاوته البيان الصحفي.

إعلان

 في البيان الذي جاء في صفحة واحدة، أشار صبري أوك إلى زعامة عبدالله أوجلان ثماني مرات. ومغزى هذا التأكيد أن الجدل الذي كان قائما على الجانب السوري من التنظيم، وتحديدا في صفوف "وحدات حماية الشعب" (YPG)، قد ابتعد لفترة عن محور: PKK/ أوجلان، متجها نحو YPG ومظلوم عبدي.

أما الآن، فيأتي هذا البيان ليعيد التأكيد على أن الزعيم الفعلي للتنظيم لا يزال أوجلان، وأن الانسحاب من تركيا جرى بأمر مباشر منه، بل وأُعلن أيضا عن إخلاء بعض الكهوف التي كانت تُستخدم كمراكز في شمال العراق.

ويمكن اعتبار هذا الإعلان انعكاسا لشخصية أوجلان النرجسية، وحرصه على ألا يفقد السيطرة على التنظيم.

البيان تضمن أيضا دعوة البرلمان التركي إلى إجراء تعديلات قانونية، وهو أمر لافت، ويدل على حاجة فعلية أكثر من كونه مطلبا. فالمقاتلون الذين ألقوا السلاح ونزلوا من الجبال، بحاجة إلى إطار قانوني يحدد كيف وأين سيعيشون. بعضهم يحمل الجنسية التركية، لكن أبناءهم وعائلاتهم المولودين في مخيم "مخمور" بالعراق لا يحملون جنسية أي بلد. فماذا سيحلّ بهم؟
ما هو وضع من يسلم نفسه من عناصر التنظيم؟ وكيف ستُعالج أوضاع المعتقلين في السجون؟ كل هذه أسئلة تستوجب تنظيما قانونيا عاجلا.

ورغم أن البيان لم يتطرق إلى مصير عبدالله أوجلان المسجون في جزيرة إمرالي، فإن الغموض لا يزال يكتنف وضعه. هل سيتم الإفراج عنه؟ هل سيغادر الجزيرة؟
ما وصلنا من معلومات يشير إلى أنه سيبقى في إمرالي، ولكن مع تحسين ظروف اتصاله بالعالم الخارجي. أما الادعاءات حول مجيئه إلى أنقرة لممارسة العمل السياسي، فهي لا أساس لها من الصحة.

الاسم الذي يسمّم العملية في سوريا

أحد أبرز أسباب الشكوك التي تراود الشعب التركي تجاه عملية "تركيا بلا إرهاب"، هو استمرار الوجود المسلح لفرع PKK في سوريا، المتمثل في YPG. فالكثير من الناس يقولون: "ما فائدة انسحاب PKK من تركيا طالما أن YPG لا تزال تحمل السلاح؟" لذلك، تتركز الأنظار الآن على وحدات YPG وقوات سوريا الديمقراطية "قسد" (QSD).
كانت تركيا تسعى لحلّ المشكلة في العراق أولا، ثم الانتقال إلى سوريا، لكن الأمور لم تسر كما خُطط لها، بل أصبحت القضيتان متداخلتين.
بل ما هو أسوأ، أن الكيان الصهيوني دخل على خط الأزمة، عبر احتلاله أجزاء من سوريا.

ففي محافظة السويداء، أقام الكيان الصهيوني علاقات مع جماعة "الهجري"، بهدف منع انخراط الدروز في النظام السوري، كما قام أيضا بالتواصل مع فصيل "باهوز أردال" داخل YPG، ساعيا لتخريب العملية برمتها.

ويبدو أن إسرائيل لا تريد التخلي عن هذه الورقة التي تستخدمها ضد تركيا، حتى ولو أدى ذلك إلى الصدام مع الولايات المتحدة.
وقد استمر ذلك حتى لقاء الرئيس رجب طيب أردوغان مع نظيره الأميركي، دونالد ترامب.

ترامب: لا تقوموا بما يزعج تركيا في سوريا

في الداخل الأميركي، هناك شريحة من المسؤولين تضع مصالح إسرائيل فوق مصلحة الولايات المتحدة نفسها. بعضهم في وزارة الخارجية، وبعضهم في وزارة الدفاع، وخصوصا في القيادة المركزية الأميركية.

وقد كانت المحاولات الإسرائيلية لتقويض عملية السلام في تركيا، بالتوازي مع سعيها لمنع اندماج YPG في النظام السوري، من المواضيع التي نوقشت خلال زيارة أردوغان إلى واشنطن.

إعلان

في نهاية الاجتماع، أصدر ترامب تعليماته بعدم اتخاذ أي خطوات في سوريا من شأنها أن تزعج تركيا. وكانت هذه الرسالة موجهة أيضا إلى إسرائيل، مفادها أن لا معادلة يمكن صياغتها سواء في فلسطين، أو في سوريا دون إشراك تركيا.

ترامب فهم هذه الحقيقة، لكن اللوبي الموالي لإسرائيل داخل الإدارة الأميركية لم يستطع استيعابها. أما الآن، فمع إحراز تقدم في دمج YPG مع النظام السوري، باتت قدرة الكيان الصهيوني على التأثير فيها محدودة أكثر فأكثر. لكن مع ذلك، تبقى الأزمة في سوريا قائمة. وبسبب التحولات الجيوسياسية والموقع الجغرافي، من المستحيل أن يظل وجود YPG كيانا مستقلا على المدى الطويل.

تأثير نهاية الإرهاب على العراق وسوريا

قضية حزب العمال الكردستاني ليست أزمة تركية فحسب، بل هي أزمة إقليمية تشمل إيران، والعراق، وسوريا أيضا. وقد تحوّلت هذه الأزمة، على مدى سنوات طويلة، إلى ألم مزمن اعتادت عليه المنطقة، رغم أنه خلّف كوارث مهولة. فمقتل عشرات الآلاف، وتضرر حياة مئات الآلاف، ترك آثارا إنسانية مأساوية في كل بلد.

أما الخسائر الاقتصادية فهي هائلة، ولا توجد إحصاءات دقيقة لحجمها. لكن إذا علمنا أن خسائر تركيا وحدها تقدر بتريليون دولار، يمكننا أن نتخيل الفاتورة الرهيبة حين نُضيف إليها خسائر العراق، وإيران، وسوريا.

انعدام الاستقرار، وغياب الأمن، وتعطّل التنمية، والفقر، وسوء التعليم، والعشوائيات، والفوضى، كلها من نتائج هذه الأزمة.

مجرد تأمين حركة التجارة والتنقل على امتداد خط العراق- سوريا سيكون إنجازا حيويا بحد ذاته. فإذا انتهى الإرهاب تماما، وتحوّلت الموارد التي كانت تُنفق على الحرب إلى مجالات الاقتصاد والتعليم والتنمية، فإننا سنكون أمام تحوّل جذري وتاريخي. وسيكون ذلك التغيير بحجم المنطقةِ كلها، لا بلدٍ واحد فقط.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

0 تعليق