في خضم النزاع المحتدم في السودان، أصبحت منصات التواصل الاجتماعي ساحة جديدة للصراع الرقمي، ويستخدمها أطراف الصراع كأدوات لمحاولات التشويه وتضليل الرأي العام وخلق سرديات مغايرة للواقع، إذ شكل استيلاء قوات الدعم السريع على مدينة الفاشر غربي البلاد بيئة خصبة لانتشارها.
وعلى المنصات الرقمية، تداول ناشطون مشاهد مروعة وأخرى مثيرة رسمت صورة قاتمة عن الواقع، ومع صعوبة التمييز بين الحقيقة والخداع في ظل هذه الفوضى العابرة للجغرافيا، يبرز تساؤلا: هل تعكس هذه المشاهد واقعا حقيقيا أم أنها مجرد دعاية تسعى لجذب التعاطف وتشكيل وعي جماهيري يزيد من الاستقطاب؟
اقرأ أيضا
list of 2 items end of listويرصد فريق "الجزيرة تحقق" في هذا التقرير أبرز 10 ادعاءات ومشاهد مضللة حازت تفاعلا واسعا على المنصات العربية والسودانية، تزامنا مع إعلان قوات الدعم السريع السيطرة على المدينة الواقعة بشمال دارفور، واتهامها بارتكاب جرائم مروعة بحق المدنيين العزل.
ذكاء اصطناعي
ولم تكن التقنيات الرقمية الحديثة بعيدة عن الأوضاع في السودان، فمنذ إعلان الدعم السريع سيطرتها على مقر الفرقة السادسة مشاة بالفاشر، تداول رواد المنصات صورة تظهر عشرات الجثث المتناثرة وسط أحد الشوارع، في منطقة يظهر عليها آثار الدمار، زاعمين أنها توثق الانتهاكات الأخيرة بحق السودانيين.
لكن أدوات كشف الزيف العميق كشفت أن هذه الصورة مولدة بالذكاء الاصطناعي، إذ يظهر لوغو أداة "ميتا إيه آي" (Meta AI) على يمينها، كما يظهر التحليل البصري للصورة احتوائها على بعض التشوهات، مثل ظهور الجثث بدون آثار دماء، وتشوّه بالأطراف، وبنية المنازل المتشابهة، فضلا عن عدم تناسق الظلال.
صورة أخرى أصبحت الأكثر تداولا على المنصات وحازت تعاطفا عالميا بعدما حققت ملايين المشاهدات، إذ ادعت حسابات أنها توثق مشهدا فريدا لأم سودانية تحتضن طفلها في خندق قبل إعدامها على يد قوات الدعم السريع في الفاشر.
صورة العام 2025 للتاريخ !
أم سودانية تحتضن طفلها قبل إعدامها !
من قبل أن جاس #الدعم_السريع
صورة لم تُروى في خيال الأفلام !!#أنقذوا_الفاشر pic.twitter.com/y0WeHHay5c
— Ahmed Bassi (@ahmedbassii) October 29, 2025
إعلان
وذهب البعض أبعد من ذلك، إذ اعتبرتها فئة "الصورة الأبرز لعام 2025″، في حين شاركت صحف عربية في تداول الصورة على نطاق واسع ومقارنتها بصورة توثق لحظة استشهاد محمد الدرة يوم 30 سبتمبر/أيلول 2000 بين ذراعي والده، مما أعطاها بعدا إنسانيا وزاد من رواية تصديقها.
هل تذكرون مشهد الطفل محمد الدرة الذي اهتز له ضمير العالم وهو يختبئ خلف والده تحت نيران الاحتلال؟
إنها الصورة ذاتها تتكرر اليوم في السودان الشقيق، لكن الجريمة هذه المرة بأيدي مليشيا الدعم السريع،
نفس القسوة، ونفس الدم البريء، والاختلاف فقط في الفاعل والمكان.#الفاشر#السودان pic.twitter.com/wyCtvClKCa— النائب محمد ناصر الحزمي الإدريسي (@Mp_M_Alhazmi) October 29, 2025
لكن فريق "الجزيرة تحقق" أجرى بحثا عكسيا عن الصورة وحصل على نسخة منها، إذ تبين أنها مولدة بالذكاء الاصطناعي، وهي مأخوذة من فيديو نشره حساب التونسي خبيب بن زيو على حسابه في "إنستغرام"، بعنوان "الفاشر تُباد في صمت"، وقد أشار إلى أن الفيديو مولد بتقنيات الذكاء الاصطناعي.
تضليل متعمد
وفي أعقاب سيطرة الدعم السريع على مدينة الفاشر، انتشر على المنصات مقطع فيديو يظهر الصحفي وعضو نقابة الصحفيين السودانيين معمر إبراهيم محاطا بعدد من الجنود التابعين لقوات الدعم السريع، في حين أعربت منظمات ونقابات عن قلقها البالغ إزاء توقيفه، وسط مطالبات بإطلاق سراحه.
#فيديو اخر في مساء اليوم
عناصر مليشيا الجنجويد يوثقون فيديو آخر
للصحفي معمر ابراهيم @MUAMMAR_SUD
ويستنطقونه مع ضرب أحدهم له
على راسهتتحمل قيادة المليشيا مسؤولية سلامة معمر وجميع المدنيين والمتطوعيين وحتى الإداريين بالفاشر #جرائم_مليشيا_الدعم_السريع pic.twitter.com/hUIL0uEZaG
— ????????AMIN (@AMINHASSANSUDAN) October 26, 2025
وبعد ساعات، شاركت حسابات داعمة للدعم السريع صورة على "فيسبوك" تزعم الحصول على مشاهد من هاتف الصحفي معمر إبراهيم تصوره مرتديا الزي العسكري وتدعي مشاركته في الأعمال القتالية إلى جانب الجيش في محور الفاشر.
وأجرى فريق "الجزيرة تحقق" بحثا عكسيا عن الصورة، وتبين أنها مضللة، ولا تعود للصحفي معمر إبراهيم أصلا، بل تعود للفنان السوداني الشاب محمد دورمي، الذي يقاتل إلى جانب القوات المشتركة المتحالفة مع الجيش، وسبق أن ظهر في أكثر من مقطع فيديو من محور الفاشر.
كما تبين أن دورمي نشر نفس الصورة المزعومة على حسابه في فيسبوك بتاريخ 24 أبريل/نيسان 2025، مما يعزز من أن تداول الصورة بعد اعتقال الصحفي ونسبتها إليه جزء من حملة تشويه قادتها حسابات تابعة لقوات الدعم السريع.
مقاطع قديمة
ونشرت حسابات داعمة للجيش السوداني على منصة "إكس" مقطع فيديو زعموا أنه يظهر تجمع المئات من مواطني ولاية نهر النيل في حشد مسلح يهدف إلى دعوة القوات المسلحة بسرعة إصدار التوجيهات والتحرك لتحرير عاصمة ولاية شمال دارفور.
مواطني ولاية نهر النيل ينظمون حشدا مسلحا و يدعون الي إصدار التوجيهات للتحرك لتحرير #الفاشر .. ✊????#الدعم_السريع_منظمة_ارهابية pic.twitter.com/gwYyO6IxFx
— المشير سوار الذهب ٣ بديل (@hamad12498) October 29, 2025
إعلان
جاء ذلك بالتزامن مع إعلان والي نهر النيل محمد البدوي التعبئة العامة والاستنفار بالولاية وتعطيل الدراسة لمدة 10 أيام بعموم المراحل، ودعوة القادرين على حمل السلاح إلى الانضمام لمعسكرات التدريب لمساندة القوات المسلحة.
ورغم ذلك، أظهر البحث العكسي نسخة قديمة لنفس الفيديو بتاريخ 28 ديسمبر/كانون الأول 2023 على يوتيوب، مما يؤكد أنه غير مرتبط بالتحركات الشعبية الأخيرة الداعمة للجيش، بل جرى توظيفه في سياق مضلل.
" frameborder="0">
ونشر حساب موثق على إكس يحمل اسم "منصة سودانيات" ويتابعه الآلاف مقطع فيديو قيل إنه يظهر وصول قيادات عسكرية بارزة، بما فيها قائد القوات المشتركة وقائد الفرقة السادسة مشاة بالفاشر، إلى مناطق آمنة بعد انسحابهم من الفاشر.
جمعة حقار ، قائد القوات المشتركة ، و والي شمال دارفور ، و قائد الفرقة السادسة مشاة الفاشر ، يصلون بسلامة الي مناطق آمنة، بعد انسحابهم من مدينة #الفاشر .#الفاشر_تحت_الحصار pic.twitter.com/lptNKSdznI
— منصة سودانيات???????? Sudaniaat (@sudaniaat) October 29, 2025
لكن تبين لفريق "الجزيرة تحقق" أن الفيديو مضلل، ولا يظهر قيادات عسكرية حديثا كما زعم البعض، إذ نشر في 21 يوليو/تموز 2023، ويظهر جانبا من استقبال ما عرفت آنذاك بـ"قافلة تخفيف المعاناة والأزمة" في الفاشر، ونشره حساب القوة المشتركة لحركات الكفاح المسلح على فيسبوك في ذلك الوقت.
ردة فعل مؤثرة
وعلى منصة "تيك توك"، زعمت حسابات أن هذا المقطع يوثق ردة فعل مواطن سوداني اعتقل على يد قوات الدعم السريع في السودان قبل لحظات من اغتياله.
@mfosvsgsv
لكن بالبحث، يتبين أن الفيديو نشر بتاريخ 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2024 على المنصة ذاتها، من دون أي تفاصيل تؤكد سياق الرواية المتداولة، كما لم يظهر المقطع تعرض الشاب المعتقل لأذى، كما روجت بعض الحسابات.
@inatinebour
مشاهد لأطفال
كما تصدر فيديو مؤثر منصات التواصل الاجتماعي المختلفة، إذ نشر مصحوبا بعنوان "طفل من الفاشر يذكر مليشيا الدعم السريع بجبروت الله وقوته من سورة البروج بعد حصارهم"، وسط تساؤلات عن مصير الطفل.
( إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ )… طفل من الفاشر يذكر مليشيا الدعم السريع بجبروت الله وقوته من سورة البروج pic.twitter.com/yCZtMWyqpA
— Salma | سلمى ???? (@salma1siddig) October 29, 2025
لكن بحث فريق "الجزيرة تحقق" كشف أن الفيديو قديم، كما أنه نشر سابقا على منصة "فيس بوك" في 11 مارس/آذار الماضي، ولا يتعلق بحصار مدينة الفاشر السودانية من قريب أو بعيد.
أيضا تداولت حسابات مقطعا آخر على نطاق واسع، إذ زعم ناشطون أنه يوثق نجاة طفلين سودانيين بعد قتل أمهما على يد قوات الدعم السريع.
#الفاشر ????
مأساة لا توصف…
نجا الطفلان، واستشهدت امهما في قصف غادر استهدف منازل المدنيين.
اللهم صبراً على البلاء، وجبراً للقلوب، ونصراً من عندك يا رب. pic.twitter.com/j0hEkam05H— Bint_Khalifa (@Bit_Khalifa1417) October 28, 2025
وبالبحث، يتبين أن الفيديو قديم ونشرته حسابات تابعة للدعم السريع على منصة "إكس" في 31 يوليو/تموز الماضي، وزعموا آنذاك أنه من مدينة الدبيبات بجنوب كردفان، إذ تؤكد النسخة المنشورة سابقا أنه غير مرتبط بالانتهاكات الأخيرة في الفاشر.
The truth is that the extremist Muslim Brotherhood is a deeply rooted evil, devoted to deception, bloodshed, and destruction under the pretext of jihad.
Today, July 31, the Sudanese Armed Forces, led by the Muslim Brotherhood in Sudan, launched a strike targeting Al-Dabaibat… pic.twitter.com/AcVcsETEyg
— خ ــالد مح ـــي الديـن (@Din_khale1) July 31, 2025
دفن الأحياء
كما انتشر فيديو حقق ملايين المشاهدات على منصات مختلفة يظهر أشخاصا أثناء دخولهم إلى مقبرة، مرفقا بعبارة "إخواننا في السودان يجبرون على دفن أنفسهم أحياء".
This scene is one of the harshest scenes in human history. They are forcing them to dig their own graves and bury themselves alive.
This is happening today in El-Fasher, Sudan ???????? pic.twitter.com/HIqFqSANDp
— Jvnior (@JvniorLive) October 29, 2025
إعلان
وقادنا البحث العكسي إلى نسخة قديمة للفيديو تداولته حسابات صومالية في 29 يوليو/تموز 2024، مما يؤكد أنه قديم، إذ يظهر مجموعة من الأشخاص داخل حفرة ويشاركون في عملية حفر، ولا يمكن تحديد الغرض منها، لكن المقطع غير مرتبط بأحداث الفاشر الأخيرة.
وباتت قوات الدعم السريع تسيطر على كامل دارفور، وهي منطقة شاسعة في غرب السودان تُغطي ثلث مساحة البلاد، في حين، يسيطر الجيش السوداني على مناطق شمال وشرق ووسط البلاد الغارقة في الحرب منذ أكثر من عامين.
وقالت نقابة أطباء السودان إن 177 ألف شخص مازالوا محاصرين في مدينة الفاشر، وأكدت أن ما جرى بالفاشر أعمال "تُمثل إبادة جماعية وتطهيرا عرقيا ممنهجا وجرائم حرب مكتملة الأركان".
وأمام الاتهامات المتوالية لقوات الدعم بارتكاب مجازر وانتهاكات، أقر قائد الدعم السريع محمد حمدان حميدتي بحدوث تجاوزات من قواته في مدينة الفاشر، وأعلن -في خطاب متلفز أمس الأربعاء- تشكيل لجنة تحقيق، مؤكدا أنه أمر قواته بالخروج من الفاشر بعد إزالة العوائق لتتولى الشرطة مسؤولية الأمن فيها.

0 تعليق