Published On 30/10/202530/10/2025
|آخر تحديث: 15:13 (توقيت مكة)آخر تحديث: 15:13 (توقيت مكة)
الزوايدة – في زاوية صغيرة من مستشفى حمد بمدينة الزوايدة وسط قطاع غزة، يجلس محمود العف يتأمل ساقه الاصطناعية الجديدة كمن يراقب معجزة تتشكل في جسده، يربّت عليها بخفة، ثم يبتسم وهو ينهض مترددًا ليخطو خطواته الأولى بعد عام ونصف عام من العكازات.
يروي حكايته لـ"الجزيرة نت" بصوت يغلبه التأثر "سنة ونص وأنا عايش على العكاكيز، حياة العكاكيز موت، لكن اليوم رجعت لي الحياة".
اقرأ أيضا
list of 2 items end of listفقَد محمود قدمه في حرب الإبادة التي شنها جيش الاحتلال الإسرائيلي على غزة، حين مزقت شظية من طائرة مسيّرة ساقه، في وقت كان يحاول إجلاء جريح من أحد شوارع مدينته المدمّرة، بعدها ظَّل يتنقل على عكاكيزه حتى بلغه خبر إعادة تشغيل قسم الأطراف الصناعية في مستشفى حمد، فهرع إليه حاملا أملا صغيرا في أن يعود واقفًا على قدميه ماشيا على الألم.
المستشفى الذي أُنشئ عام 2019 بتمويل من صندوق قطر للتنمية، يقدّم خدماته مجانًا لضحايا البتر والإصابات العصبية وإصابات العمود الفقري والدماغ والسمعيات، ضمن مشروع إنساني يهدف إلى دمج المصابين في المجتمع وتمكينهم من استعادة حياتهم الطبيعية رغم الحرب والحصار.
يقول العف بامتنان طفل استعاد لعبته بعد طول غياب "لما رَكَّبت الطرف، اختلف كل شيء.. صرت أمشي وأروح وأرجع، الحمد لله رجعت الحياة لطبيعتها".
تبدو ملامح الفرح على وجه محمود أكثر من أي وصف، لكنه ليس وحده، فقصته تتكرر يوميًا في هذا المستشفى الذي تحوّل إلى مساحة شفاء للأجساد المنهكة بعد حرب الإبادة التي اجتاحت غزة.
جبر الضحايا
وبين غرف التأهيل والورش الفنية، يتحرك الأطباء والفنيون بصمت مشوب بالإصرار، يحاولون إعادة الحركة إلى ضحايا البتر وجبر كسرهم، واحدًا تلو الآخر.
يقول مدير المستشفى أحمد نعيم "مستشفى حمد -الممول من صندوق قطر للتنمية- تأسس عام 2019، وهو متخصص في التأهيل الطبي والأطراف الصناعية والسمعية، وقدّم خدماته لأكثر من 5 آلاف مريض حتى نهاية عام 2023، بمعدل سنوي يتراوح بين 120 إلى 150 طرفا صناعيا، معظمهم من مصابي "مسيرات العودة"، لكن كل شيء تغير في أكتوبر/تشرين الأول 2023 حين استهدف الاحتلال المستشفى ومحيطه، فخرج عن الخدمة بالكامل حتى فبراير/شباط 2025".
إعلان
يستعيد نعيم تلك الأيام بصوت يختلط فيه الحزن بالفخر "بعد دخول الهدنة الأولى حيّز التنفيذ في فبراير/شباط، بدأنا بإجراء الصيانة اللازمة وعدنا للعمل في مارس/آذار 2025، ورغم نقص كل شيء تقريبًا استأنفنا تقديم الخدمات حتى مع اشتداد العدوان، غير أن الحصار لم يكن أهون من القصف، إذ حاصرت الدبابات المستشفى في الهجوم البري على مدينة غزة وأُجبر الطاقم على مغادرته تاركًا وراءه مرضى وأحلامًا معلّقة".
يضيف لـ"الجزيرة نت" "قررنا الاستمرار في خدمة أبناء شعبنا، مع ازدياد حالات البتر والإصابات، فانطلقنا نحو جنوب القطاع لافتتاح فرع جديد هناك، نكمل فيه ما بدأناه مع آلاف الحالات المبتورة، ونستوعب حالات حديثة في مناطق جغرافية جديدة في محاولة لتغطية كافة مناطق قطاع غزة".
اليوم، وبينما يحاول الطاقم استئناف العمل في فروع بديلة جنوب القطاع، لا تزال التحديات أكبر من أي قدرة بشرية. يقول نعيم "لدينا نحو 135 مبتورا، بدأنا إجراءات تركيب أطراف لهم من خلال المخزون المتوافر فقط، لأن المواد الخام اللازمة للتصنيع لا تدخل من الخارج منذ شهور، فالاحتلال يمنع دخولها بالكامل".
يختتم نعيم حديثه: "نحن لا نصنع أطرافًا فقط، نحن نصنع أملًا. كل خطوة جديدة لمريض هي انتصار صغير على هذا الحصار الطويل".
وتقدّر منظمة الصحة العالمية وجود أكثر من 50 ألف حالة بتر جديدة في غزة منذ بداية حرب الإبادة عام 2023، إضافة إلى نحو 6000 حالة قديمة، ما يجعل الحاجة للأطراف الصناعية تتجاوز أي إمكانات محلية، ورغم ذلك، يعمل مستشفى حمد بطاقته القصوى محاولًا سد هذا الفراغ الإنساني الفادح.
رحلة التصنيع
في ورشة صغيرة داخل المستشفى، تنبعث رائحة الجبس والمواد الصناعية التي يُعاد تدويرها لتصنيع الأطراف؛ هناك، يعمل الفنيون كمن ينحت الأمل في صمت؛ يشرح رئيس قسم الأطراف الصناعية في مستشفى حمد أحمد العبسي مراحل العملية، "تبدأ رحلتنا من لحظة تقييم المصاب بعد البتر، حيث نقوم بإجراء تأهيل عضلي للطرف المتبقي ليستعيد بعض قوته، ثم نصنع الطرف الصناعي داخل الورشة وفق قياسات دقيقة واحتياجات كل مصاب".
ويتابع "كل طرف يُصمم مفردا، حيث نستخدم مواد وأجزاء مستوردة من شركة ألمانية رائدة في هذا المجال، لكننا نُجري عملية المواءمة والتجميع والتدريب هنا في المستشفى؛ أما المرحلة الأخيرة فتكمن في تدريب المصاب على استخدام الطرف حتى يتمكن من المشي وممارسة حياته الطبيعية".
كما يشير العبسي إلى أن القسم يخدم حاليا مئات الحالات، ويواصل العمل من مقرين في شمال وجنوب القطاع لتغطية أكبر عدد ممكن من المصابين، مضيفا "لدينا ما يقارب 500 مصاب جديد استقبلناهم، ونواصل تقديم الخدمات مجانًا بدعم من صندوق قطر للتنمية".
ورغم كل هذه الجهود، تبقى العوائق كثيرة، فالمواد الأساسية لتصنيع الأطراف شبه منعدمة، والمعابر مغلقة بإحكام، لكن روح الفريق تبدو عصية على الانكسار، إذ يعمل الجميع بدافع إنساني لا يهدأ.
في أحد الممرات، يمرّ طفل -فقد ساقه في غارة إسرائيلية- وهو يضحك بخجل بعدما نجح في اجتياز خط التوازن لأول مرة، تصفق له الممرضة بحماس وتقول "شاطر، خطوة بخطوة بترجع الحياة".
إعلان
هذا المشهد وحده يلخص فلسفة المكان، فهنا تُصنع الحياة من جديد، قطعة قطعة، بخيوط من إرادة، بين آلة الجبس، وصوت المعالجين، وعرق الأطباء، تعود الأجساد للحركة، والوجوه للابتسامة، وكأن المستشفى يصرّ على أن يُثبت أن الإعاقات التي خلّفتها الحرب ليست نهاية الطريق، بل بدايته من جديد.
في الخارج، تغيب شمس غزة خلف الدمار، لكن في مستشفى حمد يظل النور مشتعلاً، ينبض في كل غرفة علاج، وفي كل قدم تستعيد طريقها نحو الحياة.
يقع مستشفى حمد للتأهيل والأطراف الصناعية في شمال قطاع غزة، وله فرع جديد جنوب القطاع، ويُعدّ من أبرز المراكز المتخصصة في مجال التأهيل البدني وصناعة الأطراف في فلسطين.

0 تعليق