بسام عبد السميع يكتب : ازدهار بورصة الصورة في اقتصاد المعنى - الأول نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

الجمعة 31 أكتوبر 2025 | 12:07 مساءً

بسام عبد السميع

بسام عبد السميع

بسام عبد السميع

في زمن لم تعد فيه الصورة مجرد انعكاس للعالم، بل وسيطًا لتكوينه، تشهد أسواق الرموز ازدهارًا غير مسبوق.

فالصورة - التي كانت يومًا توثيقًا للحظة عابرة - غدت اليوم أصلًا رمزيًا يُتداول في بورصة المعنى، تتغيّر قيمتها بتغيّر زوايا النظر وعدد النقرات وحجم الانتباه.

لم يعد الضوء في الصورة مجرد عنصر بصري، بل مؤشرًا للسعر الرمزي للذات: كلما ازداد سطوعه، ارتفعت “أسهم الظهور” في سوق التقدير الاجتماعي.

وهكذا دخلنا عصرًا صار فيه الجمال رأسمالًا، والحضور قيمة،والصورة عملة رقمية للهوية تتداولها الأنظار بدل النقود.

كانت الصورة في بداياتها محاولة لتجميد الزمن، لحفظ لحظة لا تُعاد. لكنها اليوم تجاوزت حدود الذاكرة، لتصبح وسيلة لتكوين الذات وتمثيلها.

إنها ليست مجرد انعكاس للواقع، بل مشاركة في صناعته.

حين نلتقط صورة في مكان شهير أو ننشر لقطة بعناية على منصة اجتماعية، فإننا لا نصنع مشهدًا فنيًا فحسب، بل نُصدر رمزًا جديدًا إلى السوق البصرية. تُقاس قيمته بقدر ما يولّد من حضور وتفاعل وتداول.

يعمل الفضاء الرقمي اليوم وفق منطق اقتصاد المعنى،

حيث تتحول الصور إلى وحدات رمزية للتبادل الاجتماعي.

الإعجاب والتعليق والمشاركة ولم تعد مجرد تفاعلات عابرة، بل مؤشرات على القيمة الرمزية التي يكتسبها الفرد أو العلامة أو الحدث.

لقد أصبحت الصورة وسيلة للتقييم الاجتماعي، تُحدّد من خلالها مكانة الإنسان في شبكة العلاقات والمعاني، مثلما تحدّد الأسواق المالية قيمة الأسهم والشركات.

الصورة إذن ليست للزينة، بل للتداول؛ تُنتَج وتُوزّع وتُستهلك داخل منظومة تحكمها مقاييس رأس المال الرمزي - حيث يصبح الانتباه أثمن من الذهب، والظهور شكلاً من أشكال القوة.

يرى فرويد أن الميل إلى الظهور في الصورة قد يكون تعويضًا نفسيًا، حيث يسعى الفرد من خلاله إلى إشباع حاجته إلى الاعتراف أو التغلب على شعور بالنقص أو التلاشي.

أما كارل يونغ فيرى أن الصورة تفتح بابًا على اللاوعي الجمعي، حيث الرموز الكبرى - النور، البحر، الجبل، الوجه، البطل - تتجلى في الأشياء من حولنا وتحمل معاني تمسّ النفس الإنسانية.

عندما نصور أنفسنا قرب الضوء أو البحر أو التمثال، فنحن -دون وعي -نستدعي رموزًا عريقة ترسّخت في الذاكرة البشرية منذ فجر التاريخ: رموز القوة والنور والخلود والانتماء. هكذا تصبح الصورة فعلًا رمزيًا قبل أن تكون فعلًا بصريًا.

تعمل منصات التواصل الاجتماعي كـ بورصات رمزية مفتوحة. كل مستخدم يعرض “أسهمه البصرية” - صوره، لحظاته، رحلاته، ابتساماته - بانتظار أن ترتفع قيمتها باللايكات والتعليقات وإعادة النشر.

المنصات لا تبيع منتجًا ماديًا، بل تُدير تبادلًا للعواطف والاعتراف، حيث تتحوّل المشاعر إلى وحدات تداول رمزية في اقتصاد لا يعتمد على النقود، بل على الانتباه.

إنه اقتصاد عاطفي للمعنى، نتداول فيه صورنا لنحصل على مقابل رمزي: الشعور بالوجود، بالانتماء، بالاعتراف.

يبقى السؤال الجوهري: هل نلتقط الصور لنحتفل بالحياة أم لنعوّض عن غيابها؟

حين تكون الصورة امتدادًا للحياة فهي فنّ، واحتفاء بالوجود. وحين تصبح بديلًا عنها، تغدو قناعًا يغطّي فراغًا داخليًا.

وتعد الصورة مرآة صادقة لحالتنا الوجودية: تكشف إن كنا نحيا لنلتقطها، أم نلتقطها لأننا نحيا.

في النهاية، كلُّنا يطلب الضوء، لا ليُبصرنا الآخرون فحسب،

بل ليضيء فينا معنى الوجود، ولنرسم لأنفسنا موضعًا في دورة المعنى التي تسري في هذا العصر، فنكون جزءًا من النسيج الذي ينسج اقتصاد المعنى في زمن الصورة.

بسام عبد السميع
الكاتب الصحفي بسام عبد السميع

0 تعليق