في زمن تُدار فيه الحواس بشاشات مضيئة، يغدو الصمت رفاهية والانتباه عملة نادرة، من هنا انطلقت حلقة جديدة من برنامج “استغراب؟” لتفكك أسرار الإدمان الخفي الذي يمارسه الدماغ كلما لمع إشعار أو دق تنبيه.
تبدأ الحلقة (يمكن متابعتها كاملة عبر هذا الرابط) من مشهد مألوف؛ هاتف يُفتح بلا سبب، ودقيقة واحدة تمتد إلى ساعة، لينتهي المستخدم مرهقا ذهنيا دون أن يتذكر ما الذي بحث عنه أصلا.
هذا الانجراف غير الواعي -كما يوضح مقدم البرنامج- ليس مجرد عادة، بل نتيجة مباشرة لكيمياء معقدة تحكمها مادة الدوبامين المسؤولة عن شعور المكافأة والتوقع في الدماغ.
اقرأ أيضا
list of 4 items end of listيستعرض السرد جذور الفكرة علميا، فيعود إلى اكتشاف الناقل العصبي الذي منحه العالم أرفيد كارلسون أهمية استثنائية منتصف القرن العشرين، قبل أن يتحول لاحقا إلى محور تصميم التطبيقات الحديثة التي تعلم كيف تُغري العقل وتستدرجه.
فكل نقرة أو إشعار ليست عشوائية، بل نتاج علم دقيق يوظّف الدوبامين لتحفيز المستخدم على البقاء أطول أمام الشاشة، ويرى البرنامج أن ما يُسمى "الاقتصاد الانتباهي" أصبح أخطر أشكال الاستغلال المعاصر؛ فالمنافسة لم تعد على المال بل على الوقت الذهني للبشر.
لذلك صُممت منصات التواصل بخوارزميات تشبه آلات القمار، لا تكافئ النتيجة بل احتمالية المكافأة، مما يجعل الدماغ في حالة بحث مستمر عن التنبيه التالي أو الإعجاب القادم.
مكافأة رقمية
ويُبرز "استغراب؟" أن السلوك ذاته الذي يدفع المقامر إلى سحب ذراع الآلة مرارا، هو ما يجعل المستخدم يحدّث صفحته دون توقف، أملا في مكافأة رقمية صغيرة، بينما ينهك دماغه بجرعات متلاحقة من الدوبامين ترفع التوقع وتُضعف المتعة تدريجيا.
ويشرح البرنامج أن الإنسان خُلق ليستشعر المكافأة بعد الجهد لا بعد اللمسة، لذلك فإن تدفق التحفيز السريع من الوسائط الرقمية يربك نظام المكافأة الطبيعي، فيشعر المستخدم بالملل من المهام العادية ويصبح الإنجاز الواقعي أقل جاذبية من العالم الافتراضي.
وفي مشهد موحٍ، يُظهر "استغراب" المقارنة بين وجبة جاهزة تُشبِع بسرعة وتفقد قيمتها الغذائية، وعقلٍ يُشبع بالدوبامين الاصطناعي حتى يفقد قدرته على الاستمتاع بالحياة الواقعية، ليطرح سؤالا مركزيا: كيف يمكن استعادة التوازن بين اللذة والتحكم؟
إعلان
يقدّم البرنامج فكرة "صيام الدوبامين" كوسيلة لإعادة ضبط الدماغ، وليس المقصود منها الانقطاع التام عن التكنولوجيا، بل ممارسة واعية للتقليل المؤقت من المثيرات الرقمية لإعادة الحساسية الطبيعية للمكافأة.
فاليوم الخالي من الإشعارات -كما يصفه المقدم- يكشف عن صعوبة الانفصال أولا، ثم عن هدوء عميق يذكّر الإنسان بنكهة التركيز القديمة.
ويستشهد السرد بتجارب علمية قصيرة المدى أظهرت تحسن المزاج والنوم والتركيز بعد أسبوعين من تقليل استخدام الهواتف والتطبيقات، مؤكدا أن الهدف ليس معاداة التقنية بل كسر الإدمان النفسي الناتج عن الإفراط في التحفيز.
الانتباه الغريزي
ويشير البرنامج إلى أن المصممين يدركون أثر كل تفصيل؛ من لون الإشعار الأحمر الذي يثير الانتباه الغريزي إلى الأصوات القصيرة التي توهم الدماغ بضرورة الاستجابةـ فالتقنية -بحسب تعبير أحد الخبراء- "لا تنتظر قرارنا، بل تُصمم لتتخذه بالنيابة عنا".
ويحذّر "استغراب" من أن فقدان السيطرة على الانتباه يخلق جيلا يعيش في دوائر من التشتت المزمن، حيث تصبح القراءة الطويلة عبئا، والتفكير المتأمل ترفا، والانقطاع المؤقت عن الهاتف مصدر قلق لا راحة، وهي أعراض تشبه أعراض الانسحاب في حالات الإدمان السلوكي.
لكن الحل لا يكمن في الانعزال، بل في استعادة زمام القرار، وفي هذا السياق يقترح البرنامج خطوات بسيطة: تحديد أوقات محددة لتفقد الهاتف، إيقاف الإشعارات غير الضرورية، العودة لأنشطة بديلة، مثل المشي أو الكتابة أو التأمل، والتساؤل قبل كل استخدام: "هل أحتاج فعلا إلى فتح الشاشة الآن؟".
ويؤكد التقرير أن تلك الممارسات الصغيرة تمثل بداية استعادة الإرادة المسلوبة تدريجيا بفعل الاقتصاد الرقمي، فالعقل الذي يتنفس هدوءا بعد عاصفة التنبيهات يستعيد قدرته على الإبداع، ويعيد تعريف المتعة بوصفها نتاج جهد لا ضغطة زر.
ويذكّر البرنامج، أن التكنولوجيا ليست عدوا، لكنها مرآة لطبيعتنا البشرية؛ فحين نمنحها السيطرة على دوافعنا نصبح أسرى داخل نظام من المكافآت الزائفة، أما حين نعيد برمجة علاقتنا بها فنحرر وعينا من الإدمان ونستعيد أبسط ما فقدناه: لحظة حضور حقيقية.
Published On 1/11/20251/11/2025
|آخر تحديث: 19:02 (توقيت مكة)آخر تحديث: 19:02 (توقيت مكة)

0 تعليق