Published On 3/11/20253/11/2025
|آخر تحديث: 18:46 (توقيت مكة)آخر تحديث: 18:46 (توقيت مكة)
مع بداية نسمات الخريف وتراجع حرارة الصيف الطويل، يلاحظ كثيرون تغيرا خفيا في مستويات طاقتهم اليومية. فبين من يشعر بتعب غير مبرر، ومن يجد صعوبة في الاستيقاظ صباحًا أو يفقد حماسه في العمل، تظهر حالة تُعرف بـ"الإرهاق الخريفي"، وهي ليست مجرد تقلب مزاجي، بل ظاهرة حقيقية تنجم عن تداخل عوامل بيولوجية ومناخية ونفسية تؤثر مباشرة في النشاط والتركيز والإنتاجية.
تأثير الضوء وتبدّل الفصول
يؤدي الضوء الطبيعي دورا أساسيا في تنظيم الساعة البيولوجية للجسم، لكن مع قصر ساعات النهار في الخريف ينخفض إفراز السيروتونين المرتبط بالمزاج والطاقة، مقابل ارتفاع الميلاتونين المسبب للنعاس. هذا الخلل الهرموني يربك الإيقاع الداخلي للجسم، فينتج عنه خمول وصعوبة في التركيز خلال العمل.
كما أن قلة التعرض لأشعة الشمس والاعتماد على الإضاءة الصناعية مساءً، إلى جانب تبدّل التوقيت بين الصيفي والشتوي، تسهم في اضطراب مواعيد النوم والاستيقاظ. وتشير مراجعة طبية نشرها موقع هارفارد للصحة إلى أن هذا الاضطراب -ساعات محدودة- يؤثر سلبًا في الجهاز العصبي ويضعف صفاء الذهن والقدرات المعرفية.
تراكم الإجهاد عبر المواسم
لا يمكن فصل الإرهاق الخريفي عن سياق العام كله، فكثيرون يقضون الصيف في سباق دائم بين العمل والسفر والنشاطات الاجتماعية دون فترات راحة حقيقية تسمح للجسد والعقل باستعادة طاقتهما. ومع انحسار ضوضاء الصيف ودخول الخريف وتباطؤ وتيرة الحياة، يظهر هذا الإرهاق المتراكم في صورة خمول وتعب جسدي ونفسي وصعوبة في التركيز وفقدان الحافز.
يحتاج الجسم في هذه المرحلة إلى فترة تأقلم لاستعادة توازنه الطبيعي، إلا أن ضغوط العمل المستمرة تمنع هذا التوازن. كما أن الأفراد في المناطق ذات التغير الموسمي الواضح يميلون للنوم والاستيقاظ، في وقت متأخر، خلال الشتاء، ما يعكس محاولة الجسم للتكيف مع انخفاض الضوء، غير أن وتيرة الحياة السريعة تعيق هذا التكيف الضروري لاستعادة النشاط.
الاكتئاب الموسمي
لا يقتصر تأثير قلة ضوء النهار وتبدّل الطقس على انخفاض مستويات الطاقة فحسب، بل يمتد أيضًا إلى الصحة النفسية. إذ تشير دراسات طبية إلى أن نقص التعرض للضوء الطبيعي يرتبط بارتفاع احتمالات الإصابة بما يُعرف بـاضطراب الاكتئاب الموسمي (SAD)، وهو نوع من الاكتئاب يرتبط بتغير الفصول، خصوصًا في الخريف والشتاء.
إعلان
يتسم هذا الاضطراب بمشاعر الحزن وفقدان الحافز وصعوبة التركيز، وهي عوامل تنعكس سلبًا على الأداء المهني والاجتماعي. وأظهرت دراسة نُشرت في دورية علم الأدوية النفسية العصبية في أبريل/نيسان 2016 أن انخفاض الضوء الطبيعي يؤدي إلى تغيّرات في نشاط السيروتونين داخل الدماغ، ما يسبب تقلبات في المزاج ومستوى الطاقة.
ووفقًا لتوصيات مايو كلينك، تبدأ أعراض الاكتئاب الموسمي عادة مع نهاية الخريف وتستمر حتى الربيع، وتشمل الكآبة، الخمول، الرغبة الزائدة في النوم، الإفراط في تناول الكربوهيدرات، وضعف التركيز.
أنماط الحياة الحديثة وقود للإرهاق
تُفاقِم العادات اليومية الحديثة من حدة الإرهاق الخريفي إلى جانب العوامل الطبيعية. فالبقاء فترات طويلة أمام الشاشات يعرض الجسم للضوء الأزرق الذي يربك الساعة البيولوجية ويؤثر سلبًا في جودة النوم، في وقت يؤدي الجلوس المستمر في المكاتب إلى ضعف الدورة الدموية وقلة الحركة وانخفاض مستويات الطاقة.
كما أن الاعتماد على الوجبات السريعة والمشروبات الغنية بالكافيين والسكريات يمنح دفعة طاقة مؤقتة سرعان ما تتبعها حالة من الهبوط والإجهاد. وتزيد ثقافة الإنتاجية المفرطة من الضغط الذهني بسبب التنقل المستمر بين المهام والاجتماعات دون فترات راحة كافية، مما يؤدي إلى الإرهاق المعرفي.
وقد تفاقمت هذه الظاهرة بعد جائحة كورونا مع انتشار العمل عن بُعد وغياب الحدود بين الحياة الشخصية والمهنية، ما وضع الدماغ في حالة من الاستنفار الدائم. وتشير دراسة أميركية نُشرت عام 2019 في مجلة علوم الصحة الرياضية إلى أن نحو نصف الأميركيين يؤجلون ممارسة الرياضة خلال فصلي الخريف والشتاء، مما يقلل تعرضهم لضوء النهار ويخفض مستويات الطاقة، رغم أن النشاط البدني يُعد من أفضل الوسائل لتحسين المزاج وتعزيز النوم الصحي.
خطوات عملية للتغلب على التعب الخريفي
يمكن التخفيف من آثار الإرهاق الخريفي من خلال خطوات بسيطة وعملية تعيد التوازن بين الجسم والعقل وتساعد على تعزيز الطاقة طوال اليوم.
التعرض للضوء الطبيعي
ابدأ يومك بالتعرض لأشعة الشمس فور الاستيقاظ، إذ يسهم ذلك في تقليل إفراز الميلاتونين المسؤول عن النعاس، ويحفّز الشعور باليقظة. وتشير مراجعات صادرة عن هارفارد للصحة إلى أن استخدام مصابيح تحاكي ضوء النهار الطبيعي مدة 30 دقيقة يوميًا -ويفضّل قبل العاشرة صباحًا- يمكن أن يكون مفيدًا، خصوصًا في المناطق التي يقل فيها ضوء الشمس شتاءً.
تنظيم النوم
اضبط مواعيد نومك تدريجيًا لتتماشى مع تغيّر ساعات النهار، مع الحفاظ على درجة حرارة الغرفة عند نحو 19 درجة مئوية، وهي الحرارة المثالية التي تساعد الجسم على خفض حرارته تدريجيًا، مما يسهل الدخول في نوم عميق ويحافظ على انتظام دورة النوم.
التغذية المتوازنة
احرص على تناول وجبة إفطار منتظمة في الوقت نفسه يوميًا، فهي بمثابة إشارة للساعة البيولوجية لبدء النشاط. ويفضَّل أن تتضمن وجباتك مزيجًا من البروتينات والخضروات والحبوب الكاملة لتوفير طاقة مستقرة طوال اليوم، وتجنب الإفراط في تناول السكريات والكربوهيدرات التي تسبب تقلبات في مستوى الطاقة.
إعلان
النشاط البدني
مارس التمارين الخفيفة أو المشي اليومي في الهواء الطلق قدر الإمكان، فالحركة تنشط الدورة الدموية وتساعد على إفراز الإندورفينات التي تحسن المزاج وتقلل التوتر وتحميك من الاكتئاب.
فترات الراحة والرعاية النفسية
خصص فترات قصيرة للراحة خلال العمل لاستعادة التركيز. وابتعد عن الضغوط والمقارنات، فالتعامل الواعي مع التعب الموسمي جزء أساسي من الحفاظ على الصحة النفسية والذهنية.
الإرهاق الخريفي ليس وهما، بل حالة بيولوجية ونفسية يمكن تجاوزها بالوعي وتنظيم النوم والتعرض للضوء وممارسة النشاط البدني. بهذا يتحول الخريف من موسم تعب إلى فصل للتجدد واستعادة الطاقة والمزاج الإيجابي.

0 تعليق