دارفور- في أحد أركان مخيم النزوح بمدينة طويلة، 68 كلم غربي الفاشر عاصمة شمال دارفور، تجلس السيدة فاطمة عبد الله على قطعة قماش مهترئة، ترتدي ثوبا خفيفا مغبّرا، وتحدّق في الأرض بصمت ثقيل.
لم تحمل معها شيئا من منزلها في مدينة الفاشر سوى ما كانت ترتديه لحظة الفرار، ولا تزال تنتظر خبرا عن ابنها علي، الذي نُقل إلى المستشفى السعودي قبل سقوط المدينة، ولم يُعرف له مصير منذ ذلك الحين.
تقول فاطمة بصوت متهدج للجزيرة نت "كان مصابا في ساقه، قالوا إن حالته مستقرة. ثم سمعنا أن المستشفى قُصف، وأن من فيه تمت تصفيتهم. لا نعرف إن كان حيا أم دُفن مع من دُفنوا".
قتل جماعي
كان المستشفى السعودي آخر ملاذ طبي للمدنيين بعد انهيار معظم المرافق الصحية في مدينة الفاشر، وتحول في نهاية أكتوبر/تشرين الأول الماضي إلى ساحة قتل جماعي، وفقا لشهادات أطباء وبيانات من منظمات حقوقية وطبية.
وفي بيان لشبكة أطباء السودان، أكدت أن "قوات الدعم السريع اقتحمت المستشفى السعودي، وقتلت بدم بارد كل من وجدت من مرضى ومرافقين، وممن قُتل أطفال ونساء، دون أي اعتبار للقوانين الإنسانية أو الأخلاقية".
جريمة موثقة
وصفت وزارة الصحة السودانية ما حدث بأنه "جريمة إبادة جماعية"، مشيرة إلى أن نحو 460 مريضا كانوا داخل المستشفى وقت الهجوم، ولم يُعثر على أي منهم بعد ذلك.
الممرض السابق في المستشفى "س.م.ع"، فرّ إلى مدينة طويلة قبل يومين من الهجوم، لكنه علم من بعض زملائه الذين لجأوا إلى إحدى القرى شبه الآمنة، أن المستشفى شهد قصفا متكررا قبل أن تقتحمه قوات الدعم السريع وتبدأ بإطلاق النار داخل غرف المرضى.
ويضيف للجزيرة نت "علمت لاحقا أنهم قتلوا الجميع دون استثناء. لم يُسمح لأحد بالخروج، ولم تُسلّم أي جثة لذويها".
وفي مخيمات النزوح، تنتظر عشرات الأسر خبرا عن أحبائها الذين كانوا يتلقون العلاج في المستشفى. ولا توجد جثث لهم، ولا قبور، ولا شهادات وفاة. فقط صمت، وألم، وانتظار.
إعلان
دفن غامض
تقول عائشة محمد، وهي أرملة وأم لطفلين، للجزيرة نت "زوجي كان يعاني من نزيف داخلي بسبب شظايا القصف، نقلناه إلى المستشفى السعودي قبل أسبوع من سقوط الفاشر، ثم اختفى. لا نعرف إن كان ميتا، أم أُخذ إلى مكان آخر، أم دُفن دون أن نعلم". وتضيف "أريد فقط أن أعرف أين جثته. لا أطلب شيئا سوى أن أدفنه بيدي".
ومع انقطاع الاتصالات تماما عن مدينة الفاشر، تباينت الروايات حول مصير المرضى الذين كانوا داخل المستشفى، فبعض النازحين تحدثوا عن دفن جماعي في محيط المنشأة، في حين تشير مصادر طبية إلى أن الجثث نُقلت في عربات عسكرية إلى وجهات مجهولة.
تحقيق عاجل
يقول عبد الله إسماعيل، وهو ناشط إغاثي وصل إلى طويلة قبل أيام، إن ما جرى داخل المستشفى السعودي يتجاوز حدود الانتهاك، ويستدعي تحقيقا دوليا عاجلا.
ويضيف إسماعيل للجزيرة نت "لدينا شهادات من مرافقين فرّوا قبل ساعات من الهجوم، تؤكد أن المرضى كانوا أحياء، وأن بعضهم كان ينتظر إجراء عمليات جراحية. ثم اختفوا جميعا، ولم يُعثر على أي جثة".
وتابع "ما حدث ليس فقط تصفية جماعية، بل طمس متعمد للأدلة. لم يُترك أثر، لا سجلات، لا قبور، لا صور. وكأنهم لم يكونوا هناك أصلا".
ويختم حديثه بالقول "هذه جريمة موثّقة، لكن العالم يرفض أن يرى. نحن بحاجة إلى فرق تحقيق تدخل الميدان للكشف عن مصير هؤلاء الضحايا.
عن المجازر في الفاشر
صور الأقمار الصناعية فضحت الكارثة في السودان!
مدينة الفاشر بقت صندوق موت حرفيا- متحوطة بسور ترابي ٩ قدم، لا دخول ولا خروج.
قوات الدعم السريع ماشية بيت بيت، بتعدم عائلات كاملة.
حتى المرضى في المستشفى السعودي اتقتلوا في سرايرهم!
صور من الفضاء بتبين تجمعات جثث…— Abdel Hamid Ahmed Hamdy (@ahamdyos) November 2, 2025
صمت دولي
ورغم فداحة الجريمة، لم يصدر حتى الآن أي موقف حازم من المجتمع الدولي، في حين أعربت منظمة الصحة العالمية عن "فزعها الشديد" من التقارير، لكنها لم تحدد الجهة المسؤولة بشكل مباشر.
وفي بيان رسمي صدر في 29 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أدانت منظمة الصحة العالمية بشدة ما ورد في التقارير عن مقتل أكثر من 460 مريضا ومرافقيهم، واختطاف 6 من العاملين الصحيين (4 أطباء وممرضة وصيدلاني) من داخل مستشفى الولادة السعودي في الفاشر.
وأضاف البيان أن المستشفى كان آخر مرفق طبي يعمل جزئيا في المدينة المحاصرة، وقد تعرض لـ4 هجمات خلال شهر واحد، كانت آخرها في 28 أكتوبر/تشرين الأول المنصرم، وأسفرت عن المجزرة الكبرى.
كما أشار إلى أن النظام الصحي في الفاشر انهار بسرعة تحت وطأة العنف والحصار والجوع، وأن مصير الموظفين العاملين في 3 منظمات غير حكومية لا يزال مجهولا.
وطالبت المنظمة الدولية بعد انتهاك حرمة مرافق الرعاية الصحية كما كفلها القانون الإنساني الدولي، مؤكدة أن ما جرى يمثل انتهاكا صارخا للمعايير الإنسانية.
نفي رسمي
وفي مقابلة مع قناة الجزيرة مباشر، نفى الناطق باسم التحالف السوداني التأسيسي (تأسيس) علاء الدين نقد الله، وقوع أية جرائم داخل المستشفى السعودي في الفاشر. وقال إن المستشفى كان يُستخدم من قبل القوات المشتركة كموقع عسكري مؤقت، وليس كمرفق طبي في تلك الفترة.
إعلان
وأضاف نقد الله أن مقاطع الفيديو المتداولة على وسائل التواصل الاجتماعي، والتي تُظهر "ما قيل إنها عمليات تصفية داخل المستشفى مفبركة ومُنتجة باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي"، داعيا إلى التحقق من مصادر هذه المواد قبل اعتمادها كأدلة.
ومن ناحيتها، تقول الناشطة الحقوقية هالة عبد الكريم إن ما حدث في الفاشر ليس حادثا معزولا، بل جزء من نمط ممنهج. وشددت على أن "تصفية المرضى داخل منشأة طبية محمية دوليا هو انتهاك صارخ لاتفاقيات جنيف". وقالت للجزيرة نت "نحن بحاجة إلى لجنة تحقيق دولية، وإلى محكمة تلاحق من ارتكبوا هذه المجازر".
وفي مخيم طويلة، لا تزال فاطمة عبد الله تنتظر، لا تملك هاتفا، ولا صورة لابنها، ولديها ذاكرة مثقلة بالوجع فقط، وأمل ضئيل بأن تعرف يوما ما حدث له.
تقول وهي تمسح دموعها بطرف ثوبها "إن مات، أريد أن أعرف أين دُفن. وإن كان حيا، أريد أن أراه. لا أريد أن أموت وأنا لا أعرف مصير ابني".

0 تعليق