Published On 4/11/20254/11/2025
|آخر تحديث: 20:19 (توقيت مكة)آخر تحديث: 20:19 (توقيت مكة)
أنقرة- بعد أكثر من 8 عقود من السرية، كشفت الاستخبارات الوطنية التركية عن تقرير سري يعود إلى عام 1940 يلقي ضوءا جديدا على واحدة من أكثر الشخصيات غموضا وإثارة للجدل في تاريخ الاستخبارات الحديث، وهو الجاسوس الشهير أحمد عزت تومروك، المعروف بلقب "كمال الإنجليزي".
ولأول مرة، يكشف التقرير الرسمي عن وجه مغاير للرجل الذي لطالما أحيطت قصصه بهالة من البطولة، إذ تصفه الوثيقة بأنه مقامر وعديم الولاء، وقدم معلومات وصفت بأنها ضحلة ومبنية على أقاويل عابرة، ما ينسف الرواية التقليدية التي مجدته كبطل من أبطال الظل.
أُعدت الوثيقة الاستخباراتية بتاريخ 26 ديسمبر/كانون الأول 1940، ورفعتها آنذاك "خدمة الأمن الوطني" -الجهاز السابق للاستخبارات التركية قبل تأسيس الجهاز الحالي- إلى هيئة الأركان العامة، كاشفة عن ملف بالغ الحساسية يتناول سيرة "كمال الإنجليزي" من زاوية مغايرة تماما للصورة السائدة.
علاقات مشبوهة
وجاء في التقرير أن أحمد عزت تومروك كان لسنوات محل متابعة دقيقة من أجهزة الأمن، إذ اعتاد الظهور بشكل متكرر أمام المسؤولين الأتراك، مقدما نفسه كعنصر استخباراتي متعاون، عارضا خدماته ومقدما ما بحوزته من معلومات.
بيد أن التقييم الرسمي سرعان ما يطعن في مصداقية تلك المواد، واصفا إياها بـ"السطحية والضئيلة"، ومشيرا إلى أنها استُقيت غالبا من مشاهدات عابرة أو أحاديث دارجة بين العامة خلال أسفاره، دون أن تحمل قيمة استخباراتية حقيقية.
ويكشف التقرير أن الأجهزة المعنية بحثت في مرحلة ما إمكانية توظيف تومروك في مهام محددة، وجرى اختباره فعليا، إلا أن التجربة انتهت بقرار قاطع بإنهاء العلاقة معه بعد أن تبين افتقاده للمصداقية، واتسام سلوكه بـ"الازدواجية وانعدام النزاهة"، ما جعله "شخصية لا يعول عليها".
إعلان
ولا تقتصر الوثيقة على تقييمه المهني فقط، بل تتوسع في عرض ملامح من حياته الخاصة وعلاقاته الخارجية، إذ تظهر أنه كان على صلة قوية بدوائر بلغارية خلال أواخر الثلاثينيات، وكان يقيم في إسطنبول مع صديقته البريطانية دورثي برايت في علاقة وُصفت بأنها "معيشة مشتركة".
كما تشير إلى أن الثنائي عرض خدماته على جهاز الاستخبارات البريطاني، إلا أن العرض قوبل بالرفض القاطع، في ظل شكوك جدية حول احتمال تبعيتهما لجهات أخرى.
وبعد صد البريطانيين، لم يتوقف تومروك، بل اتجه إلى الجانب الألماني خلال ذروة الحرب العالمية الثانية، محاولا فتح قنوات اتصال مع جهاز الاستخبارات الألماني، وهو ما ورد صراحة في التقرير الذي أشار إلى ورود معلومات تؤكد محاولته التقرب من الاستخبارات الألمانية طمعا في دور تجسسي جديد في تلك المرحلة بالغة التعقيد.
معلومات مضللة
في فصله الأخير، لم يغفل التقرير تسليط الضوء على ملامح سلوك أحمد عزت تومروك وشخصيته، حيث رُسمت له صورة قاتمة، إذ وُصف بأنه "سكير ومقامر"، وشخصية غير منضبطة لا يمكن الاتكال عليها في مهام استخباراتية حقيقية.
وأفاد معدو التقييم بأن ما قدمه من معلومات في السابق يفتقر للموثوقية، لكونه بعيدا عن الدقة ويتسم بالتضليل، الأمر الذي جعله خارج حسابات الأجهزة المعنية كعنصر يُعتمد عليه.
وأكد التقرير أن الأجهزة الأمنية التركية واصلت في تلك المرحلة متابعة تحركات "كمال الإنجليزي" عن كثب، خاصة أثناء وجوده في بلغاريا، حيث كانت تحوم حوله الشكوك بشأن صلاته المحتملة بجهات أجنبية متعددة. وقد أُرفقت الوثيقة السرية بصورة فوتوغرافية حديثة له في ذلك الحين، ما يعزز صدقيتها ويمنح القارئ تصورا مرئيا لشخصيته كما رُصدت حينها.
وقد أُدرج هذا التقرير ضمن قسم "المجموعة الخاصة" على الموقع الرسمي لجهاز الاستخبارات التركي، وهو القسم الذي يضم وثائق تاريخية أُفرج عنها في سياق سياسة انفتاح أرشيفي تهدف إلى تسليط الضوء على جوانب من أنشطة الجهاز وشخصياته عبر العقود.
ويأتي نشر هذه الوثيقة في إطار توجه أوسع لكشف النقاب عن ملفات منسية أو محجوبة، بهدف إعادة قراءة الذاكرة الاستخباراتية للجمهورية التركية في لحظات مفصلية من تاريخها.
توقيت محسوب
يرى الخبير الأمني بلال يوزغاتلي أن رفع السرية عن تقرير يدين شخصية بحجم "كمال الإنجليزي" ليس إجراء أرشيفيا عاديا، بل يحمل دلالات إستراتيجية واضحة في مقدمتها سعي جهاز الاستخبارات التركي إلى إعادة تشكيل الذاكرة الأمنية للجمهورية، عبر تقديم قراءة واقعية تستند إلى الوثائق لا إلى الأساطير.
وأوضح للجزيرة نت أن توقيت الكشف ليس عشوائيا، بل يعكس رغبة المؤسسة في إعادة تقييم رموزها التاريخية بما يتماشى مع تحولاتها الداخلية والخارجية، ويبعث برسالة مفادها أن الجهاز بات أكثر شفافية وقدرة على مراجعة ذاته. ويعكس فتح الملف تحولا مؤسسيا نحو تفكيك الرموز القديمة وإعادة تصنيفها وفق معايير محدثة تستند إلى الوقائع، معتبرا أن نشر مثل هذه الوثائق يُستخدم أيضا كأداة تأثير ناعم ورسالة سياسية محسوبة التوقيت.
إعلان
من هو كمال الإنجليزي؟
أحمد عزت تومروك الاسم الذي ارتبط لعقود بعالم الاستخبارات التركية كأحد أبرز وأغرب وجوهها في النصف الأول من القرن الـ20، بزغ نجمه خلال حرب الاستقلال التركية، حين تمكن من التسلل خلف خطوط "العدو اليوناني" مكلفا بمهمات سرية حساسة، بعد أن نال ثقة مؤسس الجمهورية مصطفى كمال أتاتورك.
تميز تومروك بصفات استثنائية جعلت منه مرشحا مثاليا لعالم الجاسوسية، كإتقان لافت للغات الأجنبية خصوصا الإنجليزية، ما مكنه من تقمص شخصية بريطاني بطريقة لا تثير الشك، وموهبة رياضية مكنته من التتويج كبطل ملاكمة، ما أكسبه لقبا إضافيا هو "بطل الملاكمة كمال".
هذه السمات جعلته شخصية ميدانية قادرة على التنقل بين العوالم المعقدة للصراع الاستخباراتي بين القوى الدولية التي تنازعت النفوذ على تركيا في تلك الحقبة.
وبعد إعلان الجمهورية، تحول كمال الإنجليزي إلى أسطورة وطنية. احتفى به الإعلام والرواية الشعبية، وظهرت قصته في كتب وأفلام، أبرزها فيلم "كمال الإنجليزي يتحدى لورنس" (1952)، الذي نسج مواجهة سينمائية متخيلة بينه وبين الجاسوس البريطاني الشهير "لورنس العرب"، ليُقدم فيها تومروك كبطل قومي في مواجهة العملاء الأجانب. كما نال وسام الاستقلال تكريما لدوره في دعم الكفاح الوطني.

0 تعليق