توشك أن تداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إِلَى قصعتها
– حديث شريف
حين نطق النبيُّ صلى الله عليه وسلم بتلك الكلمات التي عبرت الزمن، كان وجه الصحابة يشعّ دهشةً ووجلًا. كيف يمكن لأمّة تستقبل لحظة صعودها أن تُصبح وليمةً أممية؟! ظنّوا أن الضعف لا يكون إلا من قِلّةً في العدد، هكذا ترسخ في وعيّ الجماعة التي ستفتح العالم في بضعة عقود. لكنّ الصادق المصدوق رفع عن أعينهم حجاب الوهم "بل أنتم يومئذ كثير.. ولكنكم غثاء" وأرشدهم إلى أن كثرة الغثاء تساوي قلة المعنى.
آمن السلف بوقوع الغثائية وخافوها، ورأوا في سياق الآثار المروية أنها عقوبة من الله تنزل بعباده مع عقوبات أخرى، نتيجة مقدمات ذكر الحافظ ابن أبي الدنيا (208-281هـ) بعضا منها في رسالة "العقوبات"، ومنها: ترك أمر الله، وممالأة القرّاء (=العلماء) للأمراء، وعدم الأخذ على يد الظالم، والتعايش مع الظلم، وهي كلها مقدمات تؤدي إلى الغثائية التي كانت استثناء في الأزمنة السالفة.
اقرأ أيضا
list of 2 items end of listأما الغثائية في زماننا فلم تعد استثناء ولا نتيجة لمقدمات فتور وتهاون، وإنما أضحت قاعدة ينطلق منها الأعداء لمنع التفكير في الاشتباك أصلا، ويقيمون لها مؤسسات تفكير وتخطيط يرون نتائج عملها في الأمة ذلا ورضى بالهوان. وصارت أصلا ننطلق نحن منه لنعرّف أنفسنا للآخر، فكانت النتيجة هذا الخذلان الذي لم يصدقه العدو نفسه، ولم يستفق بعدُ المسلمون من أهوال صدمته بعد اهتزازات طوفان الأقصى الكاشفة. فكيف كان الطريق إلى الغثائية؟
حين يخبر الصادق المصدوق بأمر فإنه واقع لا محالة، وهو ما رأينا صورته الفاقعة على مدى عامين من الإبادة الجارية في غزة. وسنة الله أن مثل هذا الحال لا يقع فجأة، بل هو ابتلاء واختبار يقع بالتدريج لإقامة الحجة على الناس، وهو بما كسبت أيديهم، وبقدر إلفهم لتحريف الشرع، وتعصبهم لما ألفوا، ولو فقد معناه وعاد على أصله بالنقض.
إعلان
فقد كشفت أمواج طوفان الأقصى العاتية عن مسارب الغثائية الخفية والظاهرة، وطفا زبدها في بلداننا وفي أوساط تيارات الإصلاح والدعوة، التي رأت فيها الشعوب آخر القلاع، وعليها المعول، وسخر شبابها زهرات أعمارهم بحثا عن العز والمجد والتمكين، فإذا هم في حيص بيص محاطون بالعجز من كل جوانبه، وقد رأوا في غزة المحاصرة من حجج الإعداد ما أبطل كل الدعاوى، ومن آيات الثبات الباهرات ما فنَّد كل المعاذير.
تكاثرت الطرق إلى الغثائية وتضافرت أسبابها، وهي تعبير في حقيقتها عن أفكار مستحكمة تقود الجموع والجماعات، وما يذكر هنا خلاصة تأملات شخصية ومقارنات بين آثار الأحداث المزلزلة في وعي قادة الرأي، وتشكل الأفكار الرائجة في حقب مختلفة من تاريخ الأمة، وتحليلات ومقارنات للمواقف، ومستخلصات من عبر معارك مغالبة الباطل، وما يعتري الناس والجماعات من تعصب لمألوفاتها، وفيها شيء من تاريخ الأفكار وأثر الانفعالات بالأحداث في تشكل الوعي وحسم المصائر.
ظلال السيوف وأفياء المزارع
أول الطرق إلى الغثائية حددتها الأحاديث النبوية الشريفة، في حديث الباب، وفي حديث بيع العِينة (= صيغة من صيغ البيوع الربوية) وترك الجهاد الذي سماه حديث أبي داوود "دينا"، وهو أمر أفزع الصحابة فكرهوا "الدخول في أرض الخراج للزراعة لأنها تشغل عن الجهاد".
وجاء عن مكحول: "إن المسلمين لما قدموا الشام ذكر لهم زرع الحولة، فزرعوا فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه فبعث إلى زرعهم وقد ابيضّ وأردك فحرقه بالنار، ثم كتب إليهم: إن الله جعل أرزاق هذه الأمة في أسنة رماحها، وتحت أزجتها، فإذا زرعوا كانوا كالناس" كما ينقل ابن رجب في كتابه "الحكم الجديرة بالإذاعة"
خاف عمر الفاروق أن يكون أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كبقية الناس، فسد عليهم باب الرفاهية الداعي إلى الدعة وترك الجهاد، وهو حسم عمري موفق لمن أبصر المآلات؛ فالنقص الذي دخل على الجهاد وهو ذروة سنام الإسلام؛ لم يدخل على أي معلم من معالم الدين، وهذا من فقه أبي حفص بالدين والأنفس؛ فقد كُتب القتال علينا وهو كره لنا، وكان المسلمون في أيامه يفتحون المروج الخضراء ومدائن الفرس، ويقتحمون سواد العراق وأرضه المغرية بالزراعة والتثاقل إلى الأرض.
طال الأمد على المسلمين بعد الفاروق بعدة قرون، وطابت لهم أفياء المزارع، ولم يبق من الجهاد إلا أرقام تحفظ عن عدد وتواريخ المغازي والبعوث، وأسمار تقطع بها الليالي عن أخبار شهداء المعارك والقتلى وسيوف كل فريق، وما قيل في المواقع من الأشعار، وأهملوا دراسة أحكام الجهاد من كتب الفقه، فلم يعد يحفظ أبناء المدارس التقليدية من باب الجهاد في مختصر الشيخ خليل غير الأسطر المتعلقة بفروض الكفاية.
حين عاد مفهوم الجهاد، استثقل بعض المسلمين أحكام الجهاد نظريا، بعد أن تثاقلوا عمليا إلى الأرض، فكانت سيوف التأويل وسهام المراجعات مسلطة عليه وعلى مفاهيمه لإفراغه من سطوته الرادعة للباطل، ففرقوا بين جهاد الدفع والطلب فقضوا على الأخير إيثارا للراحة، وحاولوا أنسنة الأول ليوائم أوضاع القانون الدولي ويفلتوا من وصمة الإرهاب.
إعلان
كان تفادي وصمة الإرهاب أشهر طريق سلكه السالكون إلى الغثائية منذ أعلن بوش الابن "حربه الصليبية" عقب أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، فكان التأكيد على الوسطية ونبذ العنف والتطرف؛ الشغلَ الشاغل لكثير من الدعاة، تحصينا للشباب مما رأوه غلوًّا وتطرفا، وانقلبت تلك الجهود إلى الوقوف موقف المتفرج أو المثبّط أمام كل من يرفع ذلك الشعار.
غضب الله أم غضب أميركا؟
يلاحظ الراصد لتاريخ تأثير الهجمة الأميركية على الأفكار في العالم الإسلامي، أن قلة من الحركات الإسلامية استطاعت أن تنجو من حبائل تلك الهجمة، وهي الحركات التي كانت تعلي من شعارات الجهاد والرباط، ومنها حركة حماس، وقد اهتممتُ بدراسة مواقفها في تلك الحقبة بشكل خاص لعدة أسباب تتعلق بانتمائها الفكري العام، ومساراتها الحاسمة.
مفكر الحركة الدكتور إبراهيم المقادمة واكب تلك الحقبة بعدة مقالات، أحدها يتعلق بنموذج "أسامة بن لادن" رجل الأعمال الثري الذي ترك خيارات الرفاهية ورهن حياته لمقاومة الحملة الأميركية متفرغًا لأذيتها "بسبب احتلالها بلدان مسلمة ودعم الدولة الصهيونية" حسب تعبيره.
وفي مقال آخر نشره يوم 11 أكتوبر/تشرين الأول 2001، أي بعد شهر من الهجوم وقبل تبني القاعدة له، رأى فيه أنه إذا ثبتت علاقة بن لادن بالهجوم فإنه لا ينبغي للمسلمين أن يدينوه لأنه "اجتهد في مقاومة أميركا بهذه الطريقة، وهو يرى أميركا تدنس أرض المسلمين، وتدعم أعدى أعداء المسلمين وهم اليهود الذين يقتلون أطفال المسلمين صباح مساء، وكذلك فإن أميركا تدعم الحكام الفاسدين الذين يعيثون في الأرض فسادا، ويسومون شعوبهم المسلمة سوء العذاب، لا لشيء إلا لتحفظ مصالحها في إبعاد المسلمين عن دينهم".
وقارن المقادمة بين ما قام به بن لادن في تقدير مسؤوليته عن الهجوم، "وبين ما تقوم به أميركا على مدار تاريخها من قتل ودمار". وقد حسم المقادمة بهذا جدلا سيثور بعده بربع قرن عقب عملية طوفان الأقصى التي قادها تلامذته، وهو الجدل الذي يثار حول توقيت وصواب العملية بعد وقوعها.
كما تبنى مبدأ آخر عقديا ختم به مقاله وهو أمر يغيب عن المسلمين في غمرة التدافع، وهو "أن أميركا تأمرنا أن نقف ضد إخواننا المسلمين، والله يأمرنا أن نقف معهم، وليس هناك من خيار آخر، فهل نغضب الله أم نغضب أميركا؟".
قد يمر أبناء "جيل زَدْ" اليوم على كلام الدكتور المقادمة ومواقفه مرور الكرام، لكن من عاش تلك الأيام الصعبة يعرف حجم ضريبة مثل هذا الكلام وهذه المواقف، ونعرف نحن اليوم أثرهما في صياغة الأفكار ومآلات المواقف، فالتخلص من سطوة الحضارات الغازية الغالبة مقام ليس لا يصمد فيه إلا القلّة، الذين تختلف حساباتهم عن حسابات جمهور الناس.
والمتتبع للخطاب الديني بعد طوفان الأقصى يلاحظ عودة المنطق ذاته في خطابات أنصار الله الحوثيين الذين خصتهم المقاومة من بين ملياري مسلم بصفة "إخوان الصدق"، حيث يقارنون في خطاباتهم دائما بين وجوب تنفيذ أوامر القرآن في نصرة إخوان الدين والمستضعفين، وبين الخوف من إنذارات أميركا وتهديداتها.
منطق الأوامر القرآنية واليقين بما عند الله تزوّد معتنقها بعوامل الصلابة النفسية والقوة الإيمانية التي تريه أن قوة المخلوق مهما عظمت فإنها لا تقارب قوة الخالق، وأن الأصنام محض أوهام تضخمها المعتقدات والتصورات، وبالتالي، تتمثل عظمة القرآن في تربيته للنفوس على الحقائق وموازين القسط، فمن عاش في ظلاله حقا أمِنَ الغثائية، واستخفَّ بالأصنام والطواغيت.
الثؤور الذي لا ينام
في البحث عن الخصائص الفكرية التي ميزت تجربة حركة حماس باعتبارها حركة جهادية، استطاعت الثبات في وجه أعاصير الاجتثاث الخارجي والداخلي، وتشبثت بمبدأ المقاومة، يتضح أنها الفرع الإخواني الوحيد الذي ظل وفيا للنهل الواعي من الميراث الفكري لسيد قطب الذي كان فئات من الإسلاميين تتحيز عنه لغير قتال، وترى في جذريته الحاسمة عبئا على مسالك السلمية، وعثرة للحصول على شهادات حسن السيرة والسلوك لدى النظام العربي الرسمي وحلفائه الدوليين.
إعلان
فبينما حاولت بعض الأنظمة العربية تأسيس القطيعة بين القرّاء وكتب سيد قطب، عمد الشيخ المؤسس أحمد ياسين إلى أخذ الجزء الثلاثين من الظلال وقام بطباعته وتقسيمه إلى خمسة أجزاء، ووزعه مجانا في مساجد غزة، "فملأ المكتبات وملأ المدارس وملأ الشوارع، فصارت النظرة أن سيد وغيره حاجة طبيعية".
هدم الشيخ أحمد ياسين الحاجز النفسي الذي حاول الطغاة إقامته بين الشعوب وأفكار سيد قطب، كما وجد في ظلال القرآن البنية الفكرية الأساسية لمشروعه الجهادي فجعله إمامه في ساحات الإعداد النفسي، وبناء المفاهيم الشرعية والفكرية، وزوّده سيد بتشخيصه للواقع في ضوء قراءته القرآنية بخريطة واضحة للولاء والعداء، فأنشأ جيلا معتزا بـ"استعلائه الإيماني"، معزولًا عن هزائم الأمة، تتصاغر "الجاهلية المعاصرة" في عينيه.
كان سيد قطب برشاقة قلمه واتكائه على مفاهيم قرآنية ينظّر للاستعلاء على الجاهليات المعاصرة، وكانت خاتمته الملحمية مُلهمًا لحركة حماس، ولكل الحركات القريبة منها في المواقف الجذرية من الاستعمار والطغيان والاستبداد، وهذا هو سبب نشوء مجموعات عدمية ذات سمت "متديّن" جعلت مشروعها التنفير من كتاباته، وتشويه أفكاره وأتباعه وبرعاية عربية رسمية.
نابتة السوء
تستثمر بعض الأنظمة حالة الضعف النفسي لبعض المنشغلين بالعلم فيجعلون من هشاشته النفسية مبدأً يضخمونه بتخويفه من بعض الفرائض الشرعية، مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم يبحثون له عن أتباع يجتمعون حوله ويطبعون له كتبه بطبعات فاخرة، وقد يسخرون مؤسسات تعليمية معتبرة لحشد الطلاب لتلقينهم آليات الصد عن سبيل الله، وهذه هي قصة نشأة تيارات غلاة طاعة.
لئن كانت الغثائية عرضا من أعراض التيارات الأخرى بسبب عوامل غير مقصودة لذاتها، فإن تيار غلاة الطاعة أُسس لترسيخ الغثائية، وذلك بتحريمه أمر الحكام بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ولما يبثه من أفكار عدمية تمجد المخلوق الحاكم وتبرز عظمته وحتمية طاعته، وما تنشره من خلافات بين المسلمين على جزئيات فرعية تضخم للإلهاء والإشغال.
بدأت وظائف هذا التيار بالطعن في الكتابات النهضوية والتحذير من العمل الإصلاحي، وانتهت لتنفيذ مهام قتالية في اليمن وليبيا ضد تحرر الشعوب، وطوروا مفهوم "طاعة ولي الأمر" حتى شملت الغزاة والمحتلين. وكتب أحدهم في العراق إبان الاحتلال الأميركي كتابا بعنوان "دحر المثلِّب على جواز تولية المسلم على المسلم من كافر متغلب".
بعد انطلاق طوفان الأقصى بشهرين، تساءل كاتب في موقع "تايمز أوف إسرائيل" عن مدى صداقة هذا التيار لإسرائيل، ورغم ما في المقال من مغالطات كالعادة، فإنه حكمَ بأن هذا التيار يعتبر "الأكثر ملاءمة للأهداف والغايات التكتيكية والعملياتية والاستراتيجية لدولة إسرائيل. وليس لدى هذه المجموعة أي مشاكل مع تطبيع العلاقات مع دولة إسرائيل، كما ليس لديها أي مشاكل مع الدول العربية التي تبيع وتشتري مع إسرائيل، وبالتالي تعزيز الاقتصاد الإسرائيلي، وتأمين مصالحها في جميع أنحاء العالم الإسلامي وحتى خارجه".
اضطر الكاتب المتحمس وإدارة الموقع إلى حذف المقال لاحقا، فقد كان ضرر نشره أكثر من نفعه على إسرائيل والتيار ومن يدعمه ويموله، لكن ما لم يستطع التيار حذفه هو بذور العدمية التي نشرها بين أبناء المسلمين، وكذلك مظاهر الشقاق التي زرعها بين أمة الجسد الواحد فأضحت أشلاء ممزقة.
أشلاء الجامعة الإسلامية
لا أقصد الجامعة الإسلامية المدمرة في غزة التي تخرّج منها أغلب قادة طوفان الأقصى، إنما أقصد مفهوم الأمة الواحدة، والجامعة الإسلامية التي نادى بها دعاة الإصلاح من لدن جمال الدين الأفغاني إلى حسن البنا، وهي من المبادئ الإسلامية التي تلاشت نظريا على حدود سايكس بيكو، وعمليا في وجدان المسلمين.
كانت الجامعة الإسلامية فكرة مقلقة أقضّت مضجع جمال الدين الأفغاني، ورأى أن لا شفاء "للرجل المريض" إلا بالاعتصام بحبلها، فبشر بها في الهند وإيران وكابل والأستانة والقاهرة وفرنسا، وجمع حولها رجاله المخلصين، وأقاموا ميثاق إحيائهم على التمسك "بالعروة الوثقى" مقابل دعوات التفرق والتشرذم الذي رأوا بوادرها السياسية والاجتماعية الأولى تنخر مناعة العالم الإسلامي.
تجسدت فكرة الجامعة الإسلامية نظريا ووجدانيا في دعوات الإصلاح التي تولدت عن جمعية العروة الوثقى وأخواتها، وعلميا في مشروع الجمعية الخلدونية في عهد رئيسها الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور الذي أقام معهد البحوث الإسلامية لدراسة العالم الإسلامي دراسة شاملة بعد تقسيمه بحثيا إلى أربع وحدات؛ هي الوحدة العربية والطورانية والإيرانية والهندية.
إعلان
وتجسدت عمليا في الدفاع عن فلسطين؛ فقد كانت أشهر القضايا التي تنادى المسلمون إلى نصرتها باللسان والسنان في كل مراحلها، لا سيما إبان الثورة العربية الكبرى (1936-1939)، وفي عامي 1947 و1948، واستشهاد عز الدين القسام في أحراش يعبد وثيقة دم على أواصر الأمصار الإسلامية.
(الجزيرة)
ومن لهيب تجربة فلسطين خرج الشهيد عبد الله عزام يدعو الأمة إلى استعادة روح الجهاد في جبال الأفغان، بعد أن مزقت أشلاء رابطة الجامعة الإسلامية في فلسطين، وبقي المرتبطون حقيقة بالجهاد في فلسطين من غير أهلها أفرادا من الأمة أصروا على خلاصهم الفردي، فتغلبوا على أثقالهم، وبقي السواد الأعظم يتفاعل بالدعم المادي والإعلامي الضئيل، حتى رضي أبناء قادة "قواعد الشيوخ" بتثبيط الشباب المتوثب للإثخان في العدو، واقتنعوا بالتعويل على الجيوش والأنظمة القائمة، ورضوا هم من غنيمة الجهاد بالحفاظ على العشيرة التنظيمية.
العشائر التنظيمية
يلاحظ دارس تاريخ أي مذهب فقهي أو فكري بذور تشييده على عمل منظم، وهذا أمر فطري في تاريخ البشر، وقد بلغت التنظيمات أوجها في التاريخ المعاصر، واهتم المصلحون المعاصرون ببناء التنظيمات لمناهضة الفوضى المستشرية في العالم الإسلامي، ورأوا أنها وسائل لتمكين دين الله وإقامة العدل. وككل القضايا التي تصبح فيها الوسائل أهدافا بذاتها، فقد أضحت المحافظة على التنظيمات هدفا بحد ذاته لدى قطاع عريض من الإسلاميين.
وأصبح مجرد المحافظة على الشكل التنظيمي للحركات مكسبا يمكن للأنظمة أن تقايض الحركات والتيارات بما دونه، فصار التهديد بالحل ونزع التراخيص سيوفا مصلتة على رقاب قادة الإسلاميين، وهذا ما جعل هذه الحركات تترهل تنظيميا وتخرج التاريخ وهي ترى أن المحافظة على أشكالها التنظيمية غاية المبدئية، وفي ذلك التعصب والتشبث بالشكل الفاقد للمعنى مشابهة لبني إسرائيل في عبادتهم العجل، وهي عبادة أورثتهم غضب الله وذلة في الحياة الدنيا.
كان المفكر حسن بن عبد الله الترابي يرى أن الحكمة في كثرة تكرار قصص بني إسرائيل في القرآن إنما هي لتحذير المسلمين من الوقوع في تلك الأمراض وإمكانية ذلك، وكان هو نفسه يخاف من "عبادة الشكل"، ولذلك كانت الحركة الإسلامية في السودان "تبدل أشكالها تبديلا واسعا، ولم يأسرها الشكل الديني التقليدي أبدا"، كما يقول هو.
ويرى الترابي أن التشبث بالأشكال فتنة من الفتن، ذلك أن المتدينين "يعبّرون عن دينهم من خلال أشكال وصور وأنماط وقوالب للحياة منتسبة إلى الدين، مما يضفي عليها شيئا من القداسة، ويمكن أن يتوهم الإنسان أنها بهذه النسبة تأخذ شيئا من أزلية الدين لكونه مطلقا في الزمان والمكان، فيصبح أسيرا لذات الوسائل التي يستعملها ليصل بها إلى الله، وتقطعه هي عن التقدم زلفى إلى الله".
من أراد معرفة مصداق كلام الترابي في قطع وسائل التقدم إلى الله زلفى، فلينظر حجج أصحاب التنظيمات المُصاقِبين لأرض الثغور اليوم في تركهم النصرة، فهم يرون أن ركوب ما يؤمنون بأنه "ذروة سنام الإسلام" يهدد وجود التنظيم كله، فقد أضحت المحافظة على الوسيلة معيقة، وصار التنظيم "عشيرة" أحب إلى أصحابه من الله ورسوله وجهاد في سبيله. والتجارب المشاهدة تقول إن العُقد الفكرية أخطر على العشائر التنظيمية المتربصة من اقتحام أهوال الجهاد، وإن "بقية السيف أنمى عددا وأكثر ولدا"، فرب حركة قضت عليها عقدة وأكثرتها السيوف.
عقدة النقراشي وهزيمة ابن الأشعث
"إنما حدث هذا الإرجاء بعد هزيمة ابن الأشعث"
– قتادة السدوسي
بعد مرور عامين من حرب الإبادة في غزة، كانت عواصم الدنيا تغلي احتجاجا على الحرب، ومؤازرة لأسطول الصمود العالمي المتداعي لكسر الحصار عن القطاع، وكان فقط ستة أشخاص يجلسون أمام نقابة الصحافة المصرية نيابة عن أكثر من 100 مليون مصري يفترض أنهم يملؤون الساحات دفاعا عن جارهم القريب الذي يقاتل بلحمه الحي دفاعا عن أمنهم القومي.
إن قضية مصر بالنسبة لي مخيفة ومؤرقة في دراسة تاريخ الأفكار وآثارها وبقدر مركزية مصر وأهميتها، فلا يُتصور عجز تيارات إصلاحية مجتمعية تعمل لأكثر من قرن من الزمان عن جعل قضية أكثر من 60 ألف سجين سياسي قضية رأي عالمي، وهذه حالة من العجز لا يمكن الوصول إليها إلا بعامل فكري داخلي هدام ضغط عليه عنف خارجي مفاجئ فكان ما نرى.
وشمت عقدة مقتل النقراشي، التجربة الإصلاحية في مصر. فقد أضحت هذه القضية كفيلة بإرهاب الحركة الإسلامية وتخويفها من القوة واستعمالها حتى لو كانت تلك القوة قوة الدولة التي انتخبهم شعبها ثلاث مرات. وعلى هذا الوتر الحساس لعب كل اللاعبين بحياة المصريين.
لقد فعلت عقدة النقراشي بالحركة الإسلامية في مصر ما فعلت هزيمة ابن الأشعث في فقهاء زمانه، فقد نقل الذهبي في "سير أعلام النبلاء" عن قتادة قال: "إنما حدث هذا الإرجاء بعد هزيمة ابن الأشعث". كما روى لنا ابن عساكر في "تاريخ دمشق" عن النضر بن شميل قال: "دخلتُ على المأمون فقال: كيف أصبحت يا نضر؟ فقلت: بخير يا أمير المؤمنين. فقال: ما الإرجاء؟ فقلت دين يوافق الملوك يصيبون به من دنياهم وينقصون به من دينهم، قال: صدقت".
" frameborder="0">
فالهزائم نوعان: هزيمة عسكرية يمكن لأصحابها أن يكروا على أعدائهم بعد التعافي، وهزيمة نفسية لا أمل في تعافي أصحابها، فمن عاصر السجال السياسي في مصر أيام الربيع العربي يلاحظ مدى استحكام عقدة النقراشي لدى الإخوان المسلمين، وهي العقدة المعبّرة عن الخوف من القوة واستعمالها عند الحاجة وبسلطة الدولة.
فقد كان يمكن لأي صحفي إحراج قادة الإخوان بسؤالهم عن العنف ومقتل النقراشي، وهم الذين لم يقتلوا ذبابة منذ تركوا جهاد اليهود في فلسطين، وهذا عكس جواب الدكتور طارق الزمر لأحد الصحفيين الذين أرادوا إحراجه بالسؤال عن مقتل أنور السادات، فأجاب بملء فيه: "نعم نحن نفتخر في الجماعة الإسلامية أننا أول من قتل فرعون في تاريخ مصر، فانتهى ذلك الإحراج إلى اليوم"، ولم يسأله بعد ذلك صحفي عن الموضوع؛ فمنشأ العقد من قضايا الإدراك وخرائطه وليس من الواقع وحقائقه.
خرائط الإدراك والأذهان المصفّحة
حين يتحكم أي عدو في خرائط عدوه الذهنية، ويقنعه بإمكانياته التغييرية وسقوف حدودها، فسيعرف كل مواضع خطوه قبل وضعها، وسيتحكم في مساراتها، وأي عدو عرف هذه الأسرار المهلكة عن عدوه فسيحتقره لا محالة، وهذا الاحتقار هو المسمى في الحديث "انتزاع المهابة من صدور العدو".
في رصد تاريخ ما عرف بالغزو الثقافي الممتد في فراغ العالم الإسلامي، يجد الدارس أن المفاهيم الإسلامية الكبرى طُوِّعت لتلائم واقعا غريبا باسم الواقعية المصممة بعناية فائقة على مقاسات "التفريط"، وقد تعمق تأثير هذا الغزو بطول الأمد مع تطور مراكز البحوث الغربية الاستخبارية والعربية، وصارت العقليات القيادية للمسلمين متأثرة بذلك بقصد أو بدونه.
نشأ عن ذلك التأثر خلل إدراكي اتسم أصحابه في مسيرتهم العامة بضيق الآمال والرضى بالدون في الشأن العام وسنة التدافع، واقتنعوا بأنهم خُلقوا للعيش على الهامش لا لقيادة الأمم وسياسة الشعوب، وهؤلاء حين تتاح لهم فرص التغيير العظمى يضيعونها لشدة إحساسهم بسقوف الوهم الضاغطة على رؤوسهم، ومن ذلك ضياع الربيع العربي والتفريط في فرصة الطوفان.
أخطر ما في معضلة خرائط الإدراك أنها تؤسس "لقلاع مخترَقة"، وأقصد بها تلك القلاع التي تحجب صاحبها عن رؤية الواقع كما هو بفرصه وتحدياته، ولا تحميه من هجمات العدو الخارجي بأفكاره ورؤاه المخالفة لقيمه، فتجرده من مصادر قوته وتحيطه بسياج من الأوهام المعيقة.
ويمكن تسمية الناجين من شرك هذه القلاع من قادة التغيير وبناة الدول الحقيقيين في تاريخنا المعاصر بأصحاب "الأذهان المصفحة"، وهم الذين لم يستطع الأعداء اختراقهم لا بالمفاهيم الغريبة ولا برسم حدود الإمكانيات، فظلوا سادة أنفسهم يصنعون الواقع وليسوا صداه، ويحددون مواقع خطوهم ذاتيا، ويضعون خططهم وفق رؤاهم وإمكانياتهم، وينتزعون من أنياب الواقع المرير فرصا للتقدم يمهدون بها الطريق للآتين من بعدهم.
لقد أضاعت الاختراقات الذهنية على الأمة فرصا تغييرية عظيمة، منعتها من ارتياد آفاق التغيير في مواسم الإقبال، وأزمنة التغيير الكبرى. وما الإطباق على نتائج الربيع العربي، وتفويت الفرص العظيمة التي أتاحها طوفان الأقصى إلا من هذا القبيل.
نقاء الفطرة وغشاء الفترة
في رصد تعاطي الشعوب الإسلامية وغيرها مع قضية غزة والإبادة الجارية فيها، استوقفني مشهدان معبّران عن قوة نقاء الفطرة بالنسبة للأحرار ذوي الضمائر، وعن شدة غشاء الفترة بالنسبة لمن طال عليهم الأمد وقست قلوبهم، وجعلوا من محفزات الوحي العظيمة كوابح لأشواق الشهادة والتغيير والثورة على الطغيان والاستبداد بفعل التأويل والتعطيل والتحريف للنصوص.
فسوزان سارندون، ممثلة أميركية حائزة على عدة جوائز في التمثيل منها الأوسكار، ولدت قبل نكبة فلسطين بعامين، لم تؤثر 8 عقود من التمثيل وحياة الانهماك في الفن على سلامة فطرتها الإنسانية، فما زالت ترى أن نصرة غزة حق على كل إنسان سويٍّ، وركبت لجج البحر ضمن أسطول الحرية العالمي من إسبانيا إلى شواطئ غزة غير مبالية بمخاطر الطريق، ولا تهديدات بن غفير، علَّها توصل قنينة ماء أو علبة دواء أو كسرة خبزة إلى بطن جائعة في غزة.
غير بعيد من غزة، ثمة مشاهد مناقضة لنقاء الفطرة، وتكشف معضلة غواشي الفترة وخطر تنكّب طريق القرآن، أبطالها رجال مسلمون، ممن اعتاد الناس على تسميتهم بالقادة الإسلاميين، يمثلون تيارات مختلفة؛ فيهم سلفي من حزب النور في مصر يعتقد أن اتفاقيات كامب ديفيد نسخت سورة الأنفال، وقائد إخواني بالأردن يؤمن أن مذكرات التفاهم تقيد مطلقات الوحي، ويحرجه أن يترجم الشعب غضبه إلى نكاية بالعدو، وجهاديون في سوريا يحتفظون بحق الرد على قصف الاحتلال ويمنّون أنفسهم بتشييد البروج مثل بقية الناس كما خاف عمر بن الخطاب على الفاتحين الأوائل.

0 تعليق