ليس مجرد فيلم عن اغتيال، بل تحقيقا يعيد تعريف العدالة حين تتقاطع الكاميرا مع الحقيقة.. هكذا بدا الوثائقي “من قتل شيرين؟” الذي أنجزه 3 صحفيين بحثوا عمّن أسكت صوت شيرين أبو عاقلة وأربك الضمير الإنساني.
يأخذ الفيلم المشاهد في رحلة بصرية وصوتية مكثفة، تستند إلى مزيج من الأرشيف والمشاهد الميدانية والتحقيقات التقنية الدقيقة.
وقُتلت مراسلة قناة الجزيرة شيرين أبو عاقلة يوم 11 مايو/أيار 2022، إذ أصيبت برصاصة في الرأس في أثناء تغطيتها اقتحام جيش الاحتلال الإسرائيلي مدينة جنين شمالي الضفة الغربية المحتلة.
اقرأ أيضا
list of 4 items end of listمنذ اللقطة الأولى تتجلى روح البحث المهني عن الحقيقة، حيث يقرر الصحفيون الثلاثة أن يبدؤوا من النقطة الصفر: المكان نفسه الذي سقطت فيه شيرين، والمشهد الذي ما زال محفورا في ذاكرة كل من شاهد لحظات اغتيالها.
لكن الفيلم لا يكرر الصورة بل يتجاوزها، باحثا في ما وراء العدسة وما أخفته الرواية الرسمية.
في الطريق إلى المخيم، تُسمع أصوات الجنود من بعيد، ويظهر خط النار الذي حاصر طاقم الجزيرة في جنين، يركّز الفيلم على التفاصيل الصغيرة: ارتداد الصوت في الجدران، ارتباك الزملاء، الخطوات التي تراجعت فجأة قبل أن يصمت كل شيء.
واعتمد الفيلم على تحليل المقاطع الأصلية التي التُقطت في لحظة الاغتيال، ويعيد بناءها عبر تقنية المحاكاة ثلاثية الأبعاد، مستعينا بخبراء في المقذوفات وتحديد الاتجاهات الصوتية. خطوة بعد خطوة، تُقلب كل رواية رسمية على طاولتها.
يثبت التحقيق أن إطلاق النار لم يكن عشوائيا، وأن الرصاصة التي اخترقت خوذة شيرين جاءت من موقع عسكري محدّد كان يتمركز فيه جنود الاحتلال.
مسار الرصاصة
تتبع الكاميرا مسار الرصاصة على نحو دقيق، بينما تُظهر الشاشة صور الخرائط والمواقع العسكرية، ويُسمع صوت أحد الصحفيين قائلا إن ما بين الكاميرا والرصاصة "مجرد ثوانٍ، لكنها كفيلة بتغيير مجرى الحقيقة".
يقدّم الفيلم مزيجا من المهنية والوجدان؛ إذ يتحدث كل من الصحفيين الثلاثة عن العلاقة الشخصية التي ربطتهم بشيرين، وكيف تحوّلت الفاجعة إلى دافع لاستكمال رسالتها، لا إلى نداء عاطفي عابر.
في مرحلة لاحقة، ينتقل التحقيق إلى مقارنة لقطات الجيش الإسرائيلي بالصور التي التقطها شهود العيان، فالتناقضات تُكشف تباعا.. مواقع إطلاق النار، الزوايا، توقيت الأصوات، وحتى انعكاس الضوء على الجدران.
يظهر أحد الخبراء وهو يحلل إطارا بإطار، ليثبت أن الرصاصة أُطلقت بزاوية تشير بوضوح إلى موقع محدد كان يتمركز فيه جندي إسرائيلي داخل عربة مصفحة.
وهنا تبدأ لحظة الكشف الرئيسية في الفيلم، حيث تتوقف الصورة عند ملامح الجندي الذي أطلق النار، وتُعرض لقطات من تدريبات الوحدة التي ينتمي إليها، وبصوت هادئ يقول أحد الصحفيين "كنا نعرف أننا سنصل إلى هذه اللحظة… لحظة أن نرى وجه القاتل".
يلتقط المشهد الأنفاس بينما تتقاطع الصور الميدانية مع ملفات الجيش المسربة التي تُظهر اسم الجندي ورتبته، وهو الجندي الإسرائيلي ألون سكاجيو، وللمرة الأولى، يُقدَّم الدليل البصري والاسمي معا في تحقيق مستقل غير حكومي، يضع أمام الرأي العام من يتحمّل مسؤولية اغتيال الصحفية التي كانت تحمل الكلمة بدل السلاح.
شهادات ميدانية
ولأن الحقيقة لا تُبنى على الصورة وحدها، يوظف الفيلم شهادات ميدانية لزملاء شيرين الذين كانوا إلى جوارها لحظة إصابتها، فتروي الزميلة شذى حنايشة تفاصيل دقيقة عن الصوت الأول، وعن صرختها وهي تحاول سحب جثمان شيرين وسط وابل الرصاص.
ويوثق المشهد الارتباك الإنساني والمهني في آن واحد؛ إذ تحاول الصحفية النجاة من الموت بينما لا تتخلى عن الكاميرا التي أصبحت شاهدا إضافيا على الجريمة.
يتدرج السرد إلى البعد السياسي، حيث يقارن الفيلم بين صمت التحقيقات الرسمية وبين الجهد الصحفي المستقل.
ويُبرز ذلك التناقض بين الرواية الإسرائيلية التي حاولت التنصل من المسؤولية، وبين ما تكشفه البيانات التقنية التي جمعتها فرق دولية، تؤكد أن الطلقات جاءت من سلاح عسكري دقيق التصويب، لا من تبادل نيران عشوائي كما ادعى الجيش.
لم يكتف الفيلم بكشف المجرم، بل طرح سؤالا مهما ماذا بعد الحقيقة؟ ويعرض لقطات لشيرين في تقاريرها السابقة، وصوتها وهي تقول "نحن الآن في جنين"، لتكون الخاتمة الرمزية، فشيرين وإن غابت ما زالت في جنين، وفي كل مكان تُرفع فيه الكاميرا في وجه الرصاصة.
وبهذا البناء السردي، يحقق الفيلم توازنا بين الوثيقة الإنسانية والبيّنة الصحفية، ويقدّم مثالا على قوة الصحافة الاستقصائية حين تواجه الإنكار بالسؤال والإفلات من العقاب بالاسم والصورة.
ومن خلال عمل دؤوب لثلاثة صحفيين لم يعرفوا التراجع، يتحوّل السؤال القديم إلى يقين جديد: شيرين لم تُقتل صدفة، بل استُهدفت لأنها كانت هناك، تحمل الكلمة في وجه البندقية.
Published On 7/11/20257/11/2025
|آخر تحديث: 22:32 (توقيت مكة)آخر تحديث: 22:32 (توقيت مكة)

0 تعليق