مراسلو الجزيرة نت
Published On 12/11/202512/11/2025
|آخر تحديث: 09:57 (توقيت مكة)آخر تحديث: 09:57 (توقيت مكة)
غزة – في خيمة مهترئة بمخيم نزوح في الزوايدة، تجلس الأم والجدة السبعينية رؤوفة الدباغ، تحاول التماسك أمام 15 حفيدا فقدوا آباءهم جميعا في لحظة واحدة. ملامحها الغائرة وعيناها المرهقتان بالبكاء تعكس ألم الأم التي فقدت أبناءها الخمسة محمد، وفلاح، وجهاد، وصلاح، ومصطفى، في زهرة شبابهم وكانوا يشكلون سندها الوحيد.
لم تترك الحرب على غزة لهم فرصة للحياة، فاختطفهم الموت مع أربعة من أحفادها في قصف ليجد هؤلاء الأطفال أنفسهم أيتاما دون مأوى أو معيل. أكبرهم صبية لم تتجاوز الـ14، وأصغرهم طفلة رضيعة لم تكمل عامها الثاني، ويعيشون جميعا في خيمة صغيرة بالكاد تصمد أمام قسوة الليل ورياح الشتاء وبرده القارس.
رؤوفة، التي سبق أن فقدت زوجها، وبيتها المكون من 4 طوابق و8 شقق، والذي كان يؤوي أحلامها وذكرياتها مع أبنائها، أصيبت أيضا خلال الحرب في قصف خيمة مجاورة لخيمتها وخضعت لعملية استئصال الطحال، ما جعلها تعاني ضعفا دائما وألما مزمنا، لكنها تصر على البقاء قريبة من أحفادها، تواسيهم وتربت على أكتافهم الصغيرة المثقلة باليتم.
مأساة عميقة
تقول رؤوفة للجزيرة نت بصوت يغلبه البكاء "مهما تحدثت، فلن أستطيع التعبيرعن عمق مأساتي. كنت أتمنى أن يساندني أبنائي في كِبري، لا أن أدفنهم واحدا تلو الآخر". وتضيف "أعيش لأجل أحفادي فقط. نقرأ القرآن معا، وأتمنى أن يحمل الغد لهم الفرج والرحمة والسلام. كل ما أريده هو أن يعيشوا بأمان، لا أريد شيئا لنفسي سوى أن يختم الله حياتي بعد أن يكتب لي حجة إلى بيته الحرام".
كانت رؤوفة ولا زالت رمزا للصبر والعطاء، كافحت لتربية أبنائها بعد وفاة زوجها، لكنها فقدت كل شيء دفعة واحدة في الحرب، أبناءها، وبيتها، وصحتها واستقرارها. ولا تملك اليوم سوى صورهم وذكرياتهم التي تحاول ألا تمحوها قسوة الأيام.
إعلان
تعيش الأسرة في ظروف قاسية، بلا دخل ثابت أو رعاية طبية أو مأوى آمن. الخيمة مهددة بالانهيار مع أول عاصفة، والمساعدات الإنسانية قليلة ومتقطعة. وتعكس قصتها مأساة العديد من العائلات الغزية التي تعاني الفقد والفقر والنزوح والمرض في آن واحد.
تصف ابنتها حنان الوضع الأليم الذي تعيشه والدتها، وتقول للجزيرة نت "بعد استشهاد إخوتي الخمسة انكسر شيء بداخلها. لم تعد تنام إلا ساعات قليلة، تقضي لياليها تبكي بصمت، والمرض أنهك جسدها. لكنها تحاول أن تخفي وجعها أمام الأطفال لتشعرهم بالأمان".
غزة تسجل عشرات الآلاف من الأطفال اليتامى نتيجة الحرب الإسرائيلية على القطاع#حرب_غزة pic.twitter.com/hg9jN5dw97
— قناة الجزيرة (@AJArabic) September 6, 2025
أسرة متكاتفة
وتتابع حنان "نحاول تحمل جزء من المسؤولية. أمي ترعى بعض الأطفال، وأنا وأختي نتكفل بمصاريف البعض الآخر، وأخي الوحيد المتبقي ينفق على البقية. نتناوب على زيارة أمي لمساعدتها في تنظيف الخيمة والغسيل وطهي الطعام. الأمر صعب جدا، والمعاناة تفوق الوصف. حياتنا أصبحت صراعا يوميا من أجل البقاء".
وتناشد حنان المنظمات الإنسانية لتقديم الدعم لهم من خلال توفير الاحتياجات الأساسية من طعام، وماء، وملابس ودواء، ومأوى لائق يحمي الأيتام من البرد والجوع. وتؤكد "أمي مريضة والأطفال وخاصة البنات بلا سند، ونحن عاجزون عن مواجهة الواقع وحدنا".
وتشير بيانات المكتب الإعلامي الحكومي في غزة إلى أن عدد الأطفال الأيتام بلغ 56 ألفا و320 طفلا، فقدوا أحد والديهم أو كليهما في ظل واقعٍ قاسٍ ترك في نفوسهم فراغا لا يملؤه أحد.
وخلف كل رقم منهم حكاية موجعة تروي فصولا من الفقد والحرمان، ويعيشون صراعا بين براءة الطفولة وقسوة الحياة، يحملون وجعا أكبر من أعمارهم، وأملا بأن تمتد لهم يد الرحمة لتعيد لهم شيئا من الأمن والحب الذي سُلب منهم وسط دخان الحرب.
السند والملاذ
من ناحيتها، تحدثت أزهار ابنة الشهيد فلاح الدباغ عن صعوبة الحياة بعد فقد والدها وأعمامها، وتقول للجزيرة نت "جدتي رغم وجعها وألمها الجسدي لم تتخلّ عنا لحظة. احتضنتنا وكانت السند والملاذ الآمن بعد أن فقدنا آباءنا. رغم مرضها، تخدمنا وتحنو علينا كأنها أم ثانية".
وتروي دنيا، ابنة الشهيد محمد الدباغ، كيف فقدت والدتها وإخوتها جميعا في لحظة واحدة، ولم يتبقَّ لها سوى شقيقتها الرضيعة لما. وتقول للجزيرة نت "لم أكن أتخيل أن أعيش بلا أمي وأبي، وأن أصبح مسؤولة عن أختي الصغيرة. كل شيء انتهى في لحظة".
تعيش دنيا وأختها إلى جانب أبناء وبنات أعمامها الأيتام مع جدتهم رؤوفة، لكن الحياة في الخيمة صراع يومي بين البرد والجوع والخوف. وتضيف "جدتي رغم ألمها هي قوتنا وسندنا. تحاول أن تتماسك أمامنا حتى لا ننهار وتمسح دموعنا، رغم أننا نراها كل ليلة تختنق من البكاء بصمت".
قصة رؤوفة الدباغ ليست مجرد حكاية عائلة فقدت أبناءها، بل مرآة للمأساة الإنسانية في غزة. 15 يتيما بلا أب، وبلا مأوى، وبلا مستقبل واضح، وأم فقدت حياتها مرتين: بعد وفاة زوجها، وبعد رحيل أبنائها الخمسة.
إعلان
ورغم أوجاع الجسد والحرمان، ما زالت تتمسّك بالأمل، وتردد في كل صباح "لو ظلّ فيّ نفس، رح أضل أدعو وأحاول يمكن ربنا يفرجها على الأولاد قبل ما يكبروا على وجعهم".

0 تعليق