يقدّم كتاب "الولايات العراقية العثمانية: دراسة تاريخية في ضوء وثائق الأرشيف العثماني (بداية العهد العثماني-أواسط القرن الـ19)" للدكتور العراقي فاضل بيات، محاولة بحثية لإعادة قراءة تاريخ العراق العثماني استنادا إلى مصادر أولية محفوظة في الأرشيف العثماني في إسطنبول.
ينتمي المؤلف إلى الجيل الذي ربط البحث التاريخي العربي بالمصادر العثمانية الأصلية، إذ نال الدكتوراه في التاريخ الإسلامي من جامعة أنقرة عام 1975، ويعمل خبيرا في مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية (إرسيكا) التابع لمنظمة التعاون الإسلامي، كما تولّى إدارة تحرير القسم العربي من مجلة المركز.
أنجز بيات عددا كبيرا من الدراسات المتخصصة في التاريخ العثماني والعلاقات العثمانية العربية، وشغل مناصب أكاديمية وبحثية في جامعات ومراكز علمية عدة، وشارك في مؤتمرات دولية كثيرة. ونال جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي (المركز الأول، 2015)، وله أكثر من 45 كتابا وعشرات الدراسات باللغتين العربية والتركية.
ومن مؤلفاته: الدولة العثمانية في المجال العربي؛ المؤسسات التعليمية في المشرق العربي العثماني؛ بلاد الشام في الأحكام السلطانية الواردة في دفاتر المهمة.
يشكّل هذا الكتاب امتدادا لمشروعه العلمي الهادف إلى توظيف الوثيقة العثمانية في فهم تاريخ الأقاليم العربية من منظورٍ إداري واجتماعي واقتصادي متكامل.
" frameborder="0">
المصادر والمنهج
يقوم الكتاب على استخدام وثائق أصلية من الأرشيف العثماني الذي يضم أكثر من 150 مليون وثيقة، وهي مادة لم يُستفد منها إلا جزئيا في الدراسات العربية.
ويعتمد بيات على قراءة نقدية لهذه الوثائق ومقارنتها بما ورد في المصادر العربية والعثمانية المعاصرة، في محاولة لتجاوز السرديات التاريخية التي اتسمت بالعمومية أو بالانحياز السياسي.
يبرز في منهج الكتاب اهتمام المؤلف بالتحقق من النصوص وتحليل دلالاتها الإدارية والمالية والعسكرية والاجتماعية، فالوثيقة لا تُعامل هنا بوصفها نصا ثابتا، بل دليلا يحتاج إلى تفكيك وتحليل لغوي وسياقي.
إعلان
ويشير المؤلف في مقدمته إلى الصعوبات التي تواجه الباحث في التعامل مع الوثائق العثمانية، سواء من حيث اللغة والخط أو من حيث تعدد أنماط التسجيل وتنوع أغراضها، الأمر الذي يجعل الوصول إلى تصور تاريخي متكامل عملية تراكمية طويلة الأمد.
الإطار العام للبحث
يستهلّ الكتاب ببحث في الظروف التي أحاطت بتمدّد الدولة العثمانية إلى العراق في القرن الـ16، ويحلل العوامل السياسية والإستراتيجية والاقتصادية التي دفعت الدولة إلى تثبيت وجودها في المنطقة.
ويشير بيات إلى أن العراق مثّل في نظر الدولة العثمانية منطقة ذات أهمية مزدوجة: إستراتيجية بوصفها خط دفاع أمامي تجاه القوى المنافسة، واقتصادية بسبب موقعه على طرق التجارة والمياه.
ويُبرز هذا القسم التفاعل بين المصالح الإمبراطورية والواقع المحلي، مبينا أن تثبيت الحكم العثماني لم يكن مجرد إجراء عسكري، بل عملية إدارية وتنظيمية متواصلة تطلبت بناء هياكل جديدة وضبط العلاقات مع القوى المحلية.
الولايات الأربع.. تنظيم وتحوّل
يخصّص المؤلف فصولا مستقلة لدراسة الولايات الأربع التي شكّلت الإطار الإداري للعراق العثماني: بغداد والبصرة وشهرزور والموصل.
وفي كل فصل، يتناول المؤلف نشأة الولاية وتطور إدارتها، والعلاقة بين السلطة المركزية في إسطنبول والسلطات المحلية، وتعكس هذه الفصول رؤية المؤلف في ضرورة التعامل مع كل ولاية بوصفها وحدة تاريخية لها خصوصيتها، مع مراعاة الروابط البنيوية التي تجمعها بالإطار العام للدولة العثمانية.
العشائر والزعامات المحلية
يفرد الكتاب فصلا لدراسة العلاقة بين الدولة العثمانية والعشائر العراقية، فهي أحد المكونات الأساسية للمجتمع المحلي، ويتتبع المؤلف سياسات الدولة في التعامل مع العشائر، من خلال أسلوبين متكاملين: الاستيعاب الإداري من خلال التعيين والمناصب، والإخضاع العسكري في حالات التمرد.
وتكشف الوثائق، كما يوردها بيات، عن تباينٍ في سياسة الدولة بين ولايات العراق المختلفة تبعا للظروف المحلية؛ إذ كانت بعض العشائر تُمنح امتيازات مقابل حفظ الأمن وجمع الضرائب، في حين واجهت أخرى حملات تأديبية بسبب خروجها على السلطة.
ومن خلال هذا العرض، يحاول المؤلف إبراز أن العلاقة بين المركز والهامش لم تكن ثابتة أو ذات اتجاه واحد، بل كانت دينامية تتغيّر تبعا لموازين القوى والظروف الإقليمية.
الحياة الاقتصادية والاجتماعية والعمرانية
يتجاوز الكتاب الإطار الإداري إلى دراسة مظاهر الحياة الاقتصادية والاجتماعية التي نشأت في ظل الحكم العثماني، حيث يتناول المؤلف أنماط الزراعة والضرائب والتجارة، ودور الموانئ والطرق البرية والنهرية في حركة البضائع والأشخاص، كما يناقش أثر المؤسسات الدينية والأوقاف في الحياة العامة، ودور المدارس والزوايا في التنظيم الاجتماعي والثقافي.
يُبرز هذا القسم أن التأثير العثماني لم يقتصر على الإدارة والسياسة، بل امتد إلى البنية الحضرية والاقتصادية، فقد أدّت مشاريع الري والبناء وتنظيم الأوقاف إلى تشكيل فضاء عمراني جديد، ظل أثره قائما في مدن العراق حتى القرن الـ19.
يُعد هذا العمل من الدراسات القليلة التي اعتمدت على وثائق عثمانية غير منشورة من قبل بالعربية، وهذا ما يمنحه قيمة توثيقية بارزة، فالكتاب لا يقدّم سردا جديدا فحسب، بل يفتح مجالا لمراجعة كثير من التصورات الراسخة في الأدبيات التاريخية العربية حول طبيعة الحكم العثماني في العراق، خاصة ما يتعلق بعلاقة الدولة بالمجتمع المحلي.
إعلان
ويرى المؤلف أن قراءة الوثائق تسمح بفهمٍ أكثر دقة لطبيعة الدولة العثمانية بوصفها منظومة متعددة المستويات، وأن العراق مثّل في هذا السياق نموذجا للتفاعل بين المركز العثماني والهياكل المحلية في بيئة معقدة إثنيا وجغرافيا، كما يُظهر الكتاب كيف أن السياسة العثمانية تجاه الولايات لم تكن موحدة أو جامدة، بل كانت تتبدل تبعا لمتغيرات الزمن وتوازن القوى داخل كل ولاية.
أهمية الكتاب للباحثين
يخدم هذا الكتاب فئة الباحثين الذين قد يصعب عليهم الوصول إلى الوثائق العثمانية الأصلية أو التعامل معها، إذ يجمع مادتها الأساسية ويحللها ضمن سياقٍ منهجي يسهّل الرجوع إليها، كما يسدّ جانبا من النقص في المكتبة العربية فيما يتعلق بتاريخ العراق العثماني، الذي ظلّ لفترة طويلة حبيس القراءات المجتزأة أو غير الموثقة.
ومن خلال عرضٍ متوازن بين التحليل النصي والوصف التاريخي، يشكّل الكتاب نموذجا للدراسة التي تعتمد على الأرشيف بوصفه مصدرا أوليا، وتؤكد أهمية الوثيقة في إعادة بناء التاريخ بعيدا عن التعميمات الأيديولوجية.
وأخيرا، فإن كتاب "الولايات العراقية العثمانية" يقدّم رؤية بحثية تقوم على إعادة قراءة تاريخ العراق في العهد العثماني اعتمادا على وثائق أصلية، وبمنهجية تحاول الربط بين المعطى الإداري والسياسي والاجتماعي في آنٍ واحد.
وبقدر ما يُظهر العمل حجم الجهد المطلوب للنفاذ إلى الأرشيف العثماني، فإنه يطرح أيضا نموذجا في كيفية توظيف الوثيقة التاريخية لتصحيح مسارات البحث وملء الفراغات في الكتابة التاريخية العربية.
إنه كتاب يحاول أن يقدّم المادة لا الحكم، ويعيد ترتيب الوقائع في ضوء مصدرها الأصلي، ليتيح للقارئ والباحث معا النظر في تاريخ العراق العثماني من منظور أكثر توازنا، يدمج المركز بالأطراف، والإدارة بالمجتمع، والنص الأرشيفي بالتحليل العلمي.

0 تعليق