لو كانار.. "البطة المكبلة" التي يخافها ساسة فرنسا منذ أكثر من قرن - الأول نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

لا تزال الصحيفة الفرنسية "لو كانار أونشينيه"، وتعني حرفيا "البطة المكبّلة"، تحافظ منذ أكثر من قرن على مكانتها الخاصة في المشهد الإعلامي في فرنسا، باعتبارها منبرا له بصمة تحريرية خاصة، تمزج بين السخرية والعمل الاستقصائي، ويهابها أصحاب القرار في دوائر السياسة والمال.

وصدرت الصحيفة في 10 سبتمبر/أيلول 1915 في أجواء الحرب العالمية الأولى، واختار مؤسسها موريس ماريشال أن تكون منصة مضادة للدعاية الرسمية التي كانت سائدة في أجواء الحرب، ونهج أسلوب الفكاهة والسخرية سلاحا لمواجهة الرقابة التي كانت سائدة آنذاك.

وبنبرة ساخرة، وعد ماريشال قراءه بأن تواظب "لو كانار" على نشر "أخبار غير دقيقة تماما"، في تناقض صارخ مع الصحافة الرسمية التي كانت تنشر "أخبارا حقيقية بلا هوادة"، كما جاء في افتتاحية العدد الأول من الصحيفة.

وخاض الفريق المؤسس في البدايات لعبة القط والفأر مع موظفي الرقابة الذين كانوا يراجعون المحتوى قبل النشر، مما دفع العاملين في الصحيفة لشحذ روح السخرية والإبداع في رسوم الكاريكاتير لتفاذي الحذف.

" frameborder="0">

وفي تلك الأجواء المشحونة، لم تصدر الصحيفة أكثر من 5 مرات، وتوقفت بعد نحو شهرين على إطلاقها، قبل أن تعود إلى الأكشاك في يوليو/تموز 1916 ببداية جديدة في التصور والعزيمة نفسيهما، كما توقفت عن الصدور طيلة سنوات الحرب العالمية الثانية (1939-1945) عندما كانت فرنسا ترزح تحت الاحتلال النازي.

واختارت الصحيفة شعار "حرية الصحافة لا تتدهور إلا إذا لم تُستخدم"، وتتميز صفحتها الأولى بصريا بترويسة لافتة تظهر فيها بطتان، واحدة على  اليمين والأخرى على اليسار، تحملان لافتتين يتغير مضمونهما بحسب الأحداث.

لم تُحد الصحيفة عن روحها على مر العقود، وظلت وفيّة لأسلوبها الذي يجمع بين روح الفكاهة والنبرة الخفيفة، والتلميحات والإيحاءات واستخدام السخرية والنقد اللاذع أحيانا والتلاعب بالألفاظ والعبارات المسكوكة وشحنها بالرموز.

إعلان

كما تمزج الصحيفة، التي تصدر كل يوم أربعاء في عدد محدود من الصفحات (8 صفحات في عام 2025)، بين النصوص والرسومات الكاريكاتيرية والتعبيرية، دون أن تتغير صياغتها كثيرا منذ انطلاقها، لتُشكل بذلك استثناء في المشهد الصحفي الفرنسي وتحافظ على مكانتها كأشهر صحيفة ساخرة في البلاد.

ووفاء لاستقلاليتها المعلنة من العدد الأول، لا تنشر الصحيفة أي إعلانات تجارية أو ترويجية، ولا تفتح رأسمالها لأي مستثمر خارجي، وظلت تعتمد كليا على مبيعاتها ورقيا قبل أن تركب الموجة الرقمية في وقت متأخر نسبيا مقارنة بباقي الصحف الفرنسية.

وتراهن الصحيفة على ولاء قرائها، وتؤكد أنها في ملك موظفيها، وتستثمر أرباحها بانتظام لضمان التمويل اللازم من أجل تطويرها واستمرار استقلاليتها عن أصحاب القرار السياسي والمالي.

وأصبحت "لو كانار"، وخاصة منذ ستينيات القرن الماضي، نموذجا للصحافة الاستقصائية في فرنسا وخارجها، مما مكّنها من كشف فضائح كبرى طالت شخصيات بارزة وهزت أركان المؤسسة السياسية والاقتصادية والمالية في البلاد.

وعرفت الجريدة أوجها في عهد مؤسس الجمهورية الفرنسية الخامسة الجنرال شارل ديغول الذي كان دوما يسأل المقربين منه كلما أمسك بأحد أعداد الجريدة المشاكسة "ماذا قالوا عني اليوم؟"، حيث كانت شخصية ديغول وقراراته وسياساته مادة دسمة لصحفيي "لو كانار".

الصفحة الأولى من صحيفة

فضائح مدوية

ومن أشهر ملفات الفساد التي فجّرتها الصحيفة في السنوات اللاحقة "قضية ألماس بوكاسا" عام 1979 التي يعتبرها المهتمون بالصحافة الفرنسية أكبر سبق صحفي في تاريخ "لو كانار".

ففي تلك السنة، كشفت الصحيفة أن الرئيس فاليري جيسكار ديستان تلقى عندما كان وزيرا للمالية عام 1973 ألماسا من دكتاتور وإمبراطور جمهورية أفريقيا الوسطى جان بيدل بوكاسا، وحاول ديستان الدفاع عن نفسه دون أن ينجح في ذلك، وبعد عامين خسر الانتخابات الرئاسية أمام المرشح الاشتراكي فرانسوا ميتران.

وبعد ذلك بعامين، كشفت الأسبوعية الساخرة أن موريس بابون، الذي كان مسؤولا أمنيا في سنوات الحرب العالمية الثانية وتعاون مع الاحتلال النازي لفرنسا، قام بدور مهم في ترحيل اليهود، ووُجهت إليه اتهامات عام 1983 بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وحُكم عليه عام 1998 بالسجن 10 سنوات.

مصممو صحيفة "لو كانار" في باريس يوم 19 يناير/كانون الثاني 1988 (غيتي)

وفي بداية التسعينيات سببت الصحيفة متاعب جمة لرئيس الوزراء الاشتراكي بيير بيريغوفوا بعد أن كشفت في فبراير/شباط 1993 أنه حصل عام 1986 على قرض من دون فوائد قيمته مليون فرنك فرنسي (قرابة 190 ألف يورو) من رجل أعمال مقرب من الرئيس ميتران.

وتزامن الكشف عن تلك المعاملة المالية مع أجواء الانتخابات التي خسرها الحزب الاشتراكي الحاكم، مما فاقم الشكوك حول نزاهة وسمعة بيريغوفوا الذي انتحر في الأول من مايو/أيار 1993، وتعليقا على تلك النهاية المأساوية، اتهم الرئيس ميتران الصحافة بالضلوع في الحادث.

كما كشفت الصحيفة فضائح فساد أخرى بينها فضيحة تمويل الرئيس الأسبق جاك شيراك إحدى حملاته الانتخابية الرئاسية بتمويل عيني من الرئيس الغابوني الراحل عمر بونغو، كما كشفت الجريدة في 2006 وجود حساب بنكي لجاك شيراك في اليابان.

إعلان

وعلى الصعيد العربي، وفي أول أيام الربيع العربي عندما انطلقت أولى المظاهرات ضد الرئيس التونسي زين العابدين بن علي عام 2010، كشفت "لو كانار" أن وزيرة الدفاع آنذاك أمضت إجازة في تونس، وتلقت هدايا من رجل أعمال مقرب من نظام الرئيس بن علي، وبسبب ذلك الكشف استقالت الوزيرة من منصبها بعد بضعة أسابيع.

" frameborder="0">

ورقي ورقمي

ولا تزال الصحيفة تحقق نسبة مبيعات جيدة، وبلغ إجمالي متوسط توزيعها عام 2024 حوالي 242 ألف نسخة، في حين بلغ متوسط مبيعات "ملفات لو كانار" التي تصدرها كل 3 أشهر نحو 46 ألف نسخة، وتتوفر الصحيفة على احتياطات نقدية تزيد عن 130 مليون يورو.

وظلت الصحيفة تصدر ورقيا فقط إلى عهد قريب جدا، ولم تركب الموجة الرقمية إلا عام 2020 بإنشاء موقع إلكتروني محدود الخدمات والمحتوى قبل أن تتوسع على الشبكة العنكبوتية منذ سبتمبر/أيلول 2024.

وطورت "لو كانار" موقعها الإلكتروني وحوّلته إلى منصة يجد فيها المتصفح محتوى العدد الأسبوعي، إلى جانب مقالات ورسومات كاريكاتيرية، ويجري العمل تدريجيا على نشر وثائق ومواد أرشيفية يحتاج الاطلاع عليها إلى اشتراك مدفوع، وتقول الصحيفة إن ذلك الاشتراك يسهم إلى جانب اقتناء النسخة الورقة، في تعزيز استقلاليتها المالية، وبالتالي ضمان حريتها في البحث عن الحقيقة.

0 تعليق