Published On 14/11/202514/11/2025
|آخر تحديث: 16:58 (توقيت مكة)آخر تحديث: 16:58 (توقيت مكة)
في الأول من يناير/كانون الثاني 2026، عندما يُقسم زهران ممداني اليمين الدستورية كأول عمدة مسلم واشتراكي ديمقراطي لمدينة نيويورك، ستقف خلفه مباشرة والدته، المخرجة ميرا ناير، وعلى وجهها ابتسامة هادئة وفخورة. هذه المخرجة التي أسهمت في تشكيل الخيال الثقافي العالمي عبر أفلام ناجحة مثل "زفاف مونسون" (Monsoon Wedding) و"الاسم نفسه" (The Namesake) و"ملكة كاتوي" (Queen of Katwe)، يبقى إنتاجها الأكثر شخصية ومدعاة للفخر ذلك الابن الذي يقف اليوم في طليعة حركة قد تغيّر الولايات المتحدة وتقود العالم إلى عصر جديد تمامًا.
المخرجة والأم
وإذا كان زهران ممداني قد أظهر وعيا متقدما وصلابة في مواجهة عواصف اليمين الأميركي، وشراسة اللوبي الصهيوني في المدينة الأيقونية، فإن التعرف على والدته يبدد كثيرا من الدهشة. فميرا ناير مخرجة مقاتلة، لا تساوم على رؤيتها الفنية، وترفض الانصياع لإملاءات أستوديوهات هوليود الكبرى. اختارت طريق الإنتاج المستقل، لتقدّم أفلامًا تضاهي أعمال الشركات العملاقة في الإيرادات، وتحظى في الوقت نفسه بثناء النقاد واحترامهم. كانت دائمًا منحازةً للعمال والمهمّشين، في دلهي وكمبالا ونيويورك، تعبّر عن ذلك بوضوح في أعمالها التي بدأت بوصفها وثائقية، قبل أن تتحوّل إلى سرديات روائية تحمل الخيال والوعي الاجتماعي معًا.
اقرأ أيضا
list of 2 items end of listورغم أن أفلامها أنارت حياة الناس حول العالم، فإن مشروعها الأكثر حميمية تجلّى في بيتها. وُلد ابنها زهران في كمبالا عام 1991، في وقتٍ كانت فيه هي وزوجها الأكاديمي محمود ممداني، المولود في أوغندا، منخرطَين بعمق في الفكر والسياسة على جانبي الأطلسي. ربّت ميرا ابنها في نيويورك، ونسجت له نسيجًا من العدالة والحكاية وهوية الشتات. ويروي العمدة المستقبلي في مقابلاته كيف كانت أحاديث العائلة تمتد على مائدة العشاء من إنهاء الاستعمار إلى دوستويفسكي، ومن بوليوود إلى ثورة يناير/كانون الثاني 2011 في مصر.
إعلان
لم تكتفِ ميرا بتربية طفل، بل كوّنت مواطنا واعيا. أدركت منذ البداية أن فهم الأنظمة العالمية شرطٌ لفهم الذات، فحرصت على أن يرى ابنها موقعه داخل قصة أكبر من حياته الخاصة. وفي أجواءٍ فنية نابضة، تعلّم زهران أن التعاطف فعلٌ لا شعور، وأن الإيمان بالعدالة لا يكتمل إلا بالنضال من أجلها.
ورغم أنها ابتعدت إلى حد كبير عن صور الحملات الانتخابية وجلسات التخطيط الإستراتيجي العامة، فإن بصمات ميرا ناير واضحة في مسيرة ابنها السياسية. فقد ساعدته على تطوير فهم عميق للسرد والصورة والرمزية، وهي مهارات جعلت خطاباته ورسائله السياسية مؤثرة بشكل غير عادي.
هوية محددة واغتراب مزدوج
ولدت ميرا ناير في 15 أكتوبر/تشرين الأول 1957 في ولاية أوديشا الهندية. نشأت مع شقيقين أكبر منها. كان والدها موظفًا حكوميًا ووالدتها أخصائية اجتماعية. في سنوات مراهقتها، انتقلت مع عائلتها إلى بوبانسوار والتحقت بمدرسة إنجليزية، درست الأدب والمسرح والفنون. كان زواجها الأول من المصور والمحاضر ميتش إبستين بعد أن التقيا أثناء وجودها في جامعة هارفارد وتزوجا في الهند عام 1981، ثم انفصلا. كان زواجها الثاني من عالم السياسة محمود ممداني، الذي التقت به في نيروبي أثناء قيامهما بأبحاث، وتزوجا عام 1991 وأنجبا لاحقًا "العمدة زهران".
بدأت ميرا مسيرتها المهنية في مجال السينما بعد دراسة علم الاجتماع في جامعة دلهي، ثم في جامعة هارفارد، حيث قادها شغفها المتزايد بالسرد القصصي البصري إلى صناعة الأفلام الوثائقية. في نهاية سبعينيات القرن الماضي، أخرجت أفلامًا وثائقية قصيرة حول الفقر والهوية في الهند، منها "بعيدًا عن الهند" 1983(So Far from India)، الذي نال ثناء كبيرًا في مهرجان نيويورك السينمائي. في عام 1988، حققت شهرة دولية بفيلم "سلام بومباي!" 1988 (Salaam Bombay!)، وهو تصوير رصين لأطفال الشوارع في مومباي، وحصل على ترشيح لجائزة الأوسكار لأفضل فيلم بلغة أجنبية. وقد رسخ هذا النجاح مكانة ناير كصوت عالمي مزج بين الأصالة الهندية ولغة سينمائية عالمية، مما مهد الطريق لأعمالها اللاحقة مثل "ميسيسيبي ماسالا" و"زفاف مونسون".
أعمال أيقونية
اعتبر فيلم "ميسيسيبي ماسالا" 1991 بمثابة وعد بمخرجة متميزة، وقد نجحت من خلاله ميرا ناير في تصوير تعقيدات الهوية والمنفى والعلاقات بين الأعراق. ليصبح عملا رائدا في تمثيل أصوات جنوب آسيا في السينما الغربية. يروي الفيلم قصة مينا، وهي شابة هندية أوغندية، وعلاقتها العاطفية برجل أميركي من أصل أفريقي في الجنوب الأميركي. الفيلم من بطولة ساريتا تشودري ودينزل واشنطن، ويتناول التوترات الثقافية داخل مجتمعات المهاجرين والسود.
نالت أفلام ميرا ناير شهرة كبيرة، وبرزت منها 3 أفلام باعتبارها أيقونية بشكل خاص "زفاف مونسون" Monsoon Wedding) 2001)، و"نفس الاسم" 2006 (The Namesake)، و"ملكة كوتوي" Queen of Katwe) 2016). لا تمثل هذه الأفلام ذروة مسيرتها الفنية فحسب، بل تعكس أيضًا التزامها العميق بسرد قصص غنية عاطفيا وجذور ثقافية ذات صلة عالمية. ولعل "زفاف مونسون" هو الأكثر شعبية، إذ يروي قصة نابضة بالحياة وفوضوية وإنسانية إلى حد بعيد عن استعدادات عائلة بنجابية لزواج من نوع الصالونات. وقد تم الاحتفال بالفيلم لتصويره للتصادم بين التقاليد والحداثة، وفاز بجائزة الأسد الذهبي في مهرجان فينيسيا السينمائي وأصبح منذ ذلك الحين من كلاسيكيات السينما العالمية، حتى إنه تم تحويله إلى مسرحية موسيقية في برودواي.
إعلان
أما فيلم "الاسم نفسه" والمقتبس من رواية غومبا لاهيري، فهو رصدٌ أكثر حميمية وتأملا للهويات المهاجرة والتوتر بين الأجيال وتعقيدات الانتماء، وذلك من خلال عدسة عائلة أميركية بنغالية. صنعت ناير فيلمًا لاقى صدى واسعًا لدى جماهير الشتات حول العالم. وفي فيلم "ملكة كاتوي"، قدمت دراما رياضية مؤثرة تتناول قصة لاعبة الشطرنج الأوغندية المعجزة فيونا موتيسي. قدّم الفيلم أداءً قويًا من الممثلة لوبيتا نيونغو وديفيد أويلوو، وقد شكّل انطلاقةً للاحتفاء بالتميز والصمود الأفريقيين، لا سيما بين النساء.
يتميز كل فيلم من هذه الأفلام بأسلوبه المميز وطابعه الجغرافي، إلا أنه يجمعها أسلوب ميرا ناير المميز، والنابض بالحياة، والواعي اجتماعيًا. رسّخت هذه الأعمال مكانتها كصاحبة رؤية تربط بين العوالم بروحها وتألقها السينمائي.
لا تعد بداية العام القادم مجرد يوم يبدأ خلاله عمدة أكبر مدن العالم عمله، ولكنه تأكيد على أن موازين القوى الحقيقية تكمن في البيت حيث يغرس الأب الدكتور محمود ممداني قيما تتعلق بالبسطاء، وتغرس الأم المخرجة ميرا ناير قيم الأصالة والتمسك بالحق، وحين تنجح المعادلة تصرح والدة العمدة قائلة لمجلة فورتشن "لطالما آمن زهران بأن العدالة ليست صدقة، بل حق. إن مشاهدته وهو يُجسّد هذا الإيمان في الشوارع، ثم في المجلس، ثم في مبنى البلدية، قصةٌ لا أستطيع كتابتها أبدًا، بل أشهدها بخشوع."

0 تعليق