الخوف الذي يجعل الاستقرار مستحيلا في إسرائيل - الأول نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

في عام 1965، وقع روي روتبيرغ، أحد حراس الأمن في مستوطنة ناحال عوز، في كمين نصبه ضابط شرطة مصري وفلاح فلسطيني، أدى إلى مقتله، وأثار صدمة واسعة بين المستوطنين، فانتقل بسرعة موشيه ديان، رئيس هيئة أركان جيش الاحتلال الإسرائيلي حينها وبطل الحرب البارز في إسرائيل، وشارك في تأبينه.

صار الخطاب الذي أُعِدَّ على عجل كي يُلقيه ديان أمام المستوطنين جزءا من روح إسرائيل الوطنية، فقد اعترف ديان بالمعاناة الفلسطينية، وأكد أن هؤلاء الذين قامت الدولة الإسرائيلية على أنقاض قُراهم لا يمكن لومهم، وأوضح أن حفظ الأمن سيكون عبئا أكبر إن أراد اليهود بقاء دولتهم، وأن الشباب المقيمين في ناحال عوز "يحملون على كاهلهم بوابات غزة الثقيلة التي لا تختلف كثيرا عن بوابات الجحيم" على حد قوله.

اقرأ أيضا

list of 2 items end of list

كان تصريح ديان تلخيصا لما تعنيه هذه التجمُّعات وما تُشكِّله من مُعضلة منذ بداية تأسيسها، حيث يصعب فصل ما هو مدني فيها عما هو عسكري، فهناك تُغلِّف الحي وحدات كثيفة من الأشجار لعزله بصريا عن البيئة المحيطة، وهو مناخ بدا لبعض زوار المكان "جنة تقع بالقرب من الجحيم" أو "مجتمع سياحي يقع بالقرب من ساحة قتال".

تشي كلمات ديان كذلك بحقيقة تصميم الاحتلال للمدن والمستوطنات، فهي عمارة تشي بتاريخ اغتصاب الأرض والخوف العميق الذي يعيشه المستوطنون من لحظة استردادها. ولا ينعكس ذلك على حدود غزة وحدها، بل يظهر في ملامح العمارة التي يُمكن وصفها بعسكرة المدن، وتُطبَّق في كل مدن الكيان، وهي قصة بدأت مع تأسيس المستوطنة الأولى، ولا تزال مستمرة.

" frameborder="0">

العسكريون يُصمِّمون

 

كانت سياسة التخطيط وأعمال البناء منذ نشأة إسرائيل في عُهدة معماريين ومُصممين محترفين حتى الخمسينيات والستينيات، لكنها انتقلت بعد حرب 1967 إلى السياسيين والضباط والنشطاء الأيديولوجيين.

قبل 1967، رسم المعماري آرييه شارون خطته في حدود ثابتة للدولة، أما بعد 1967 فإن مساعي الاستيطان تحركت وفق مناطق "ذات خصائص لدنة"، كما يشرح المهندس المعماري والأكاديمي الإسرائيلي إيال وايزمان في كتاب "أرض جوفاء: الهندسة المعمارية للاحتلال الإسرائيلي" الصادر عام 2007.

إعلان

في بداية مساعيهم للعودة إلى "أرض الميعاد"، استوطن الصهاينة الأوائل السهول الساحلية والوديان ذات التربة الخصبة. ولكن بعد عام 1967، وفي خضم استيلائهم على الأراضي خارج الحدود المُعترف بها دوليا، راح المستوطنون يستهدفون جبال الضفة الغربية وهضبة الجولان السورية وصحراء سيناء، وصارت الجبال قواعدهم الإستراتيجية.

كانت العمارة الإسرائيلية منذ وقت مبكر أرضا خصبة أدلى فيها العسكريون بدلوهم، وبينما تستند مبادئ تخطيط التجمعات العمرانية إلى استيعاب الاحتياجات الديموغرافية أو الجدوى الاقتصادية، فإن الحالة الإسرائيلية تحمل أهدافا سياسية بينها تحجيم النمو العمراني الفلسطيني ومراقبة التجمعات الفلسطينية، وتلعب دورا أساسيا في السيطرة المكانية على أكبر مساحة من الأرض، وقد ظهر هذا جليا بداية من اختيار الموقع اعتمادا على الأهداف العسكرية، وهو ما سمّاه إيال وايزمان "عمارة القمم".

" frameborder="0">

لطالما فرض منطق العسكر اعتباراته، وشارك قادة عسكريون في التخطيط لإنشاء المستوطنات في المناطق الحدودية، وفق ما قاله رفائيل إيتان، رئيس هيئة الأركان السابق في جيش الدفاع الإسرائيلي.

ولم يكن الشكل المعماري للمستوطنات الريفية الصهيونية نتاج أنظمة الإنتاج الزراعي أو تكوينها الأيديولوجي والاجتماعي فحسب، وإنما أسهمت كذلك الاعتبارات التكتيكية في معمار المستوطنات، وكان إيتان يسعى لترسيخ الدور الدفاعي للمستوطنات، ومن ثمَّ ضرورة وضع مواقعها في الاعتبار كونها تساعد جيش الدفاع في "تنفيذ مهامه".

خصَّص ييغال آلون، السياسي والعسكري الإسرائيلي السابق، فصلا كاملا عن المستوطنات في البيان السياسي والإستراتيجي الذي أصدره عام 1959، وقال فيه إن إدماج الاستيطان المدني في نظام الدفاع الإقليمي العسكري سيُؤمِّن للدولة مواقع أمامية للمراقبة والرصد تحمي العسكريين، فتنقل لهم المعلومات بشأن أي هجوم مفاجئ وتؤخر تقدُّمه حتى وصول التعزيزات العسكرية.

وقد أشار آلون إلى أن مستوطنات الكيبوتس "لا تقل قيمة عن الوحدة العسكرية، بل قد تتفوق عليها"، مُستشهدا بدور إحدى الكيبوتسات في صحراء النقب في صد الوحدات العسكرية التابعة للجيوش العربية عام 1948.

وتوضح دراسة "التخطيط للسيطرة المكانية، دراسة حالة عن الضفة الغربية المحتلة"، التي نشرتها مجلة البحوث الحضرية (JUR) عام 2015، كيف تلاحم التخطيط مع الأيديولوجيا السياسية، فكان أداة للسيطرة المكانية. كما كتب شارون روتبارد، المهندس المعماري الإسرائيلي، أن العمارة والتخطيط في إسرائيل استمرار للحرب بوسائل أخرى، فكل عمل معماري في إسرائيل هو في حد ذاته عمل صهيوني.

وتشير الدراسة إلى ذلك التزاوج بين نظريات التخطيط والسياسة في الكيان المحتل، حتى إن مؤسسي الدولة حرصوا على أن يكون قسم التخطيط تابعا لرئاسة الوزراء مباشرة، وتوضح كيف تكشف عمارة المستوطنات التي تجمع العشوائية بالحرفية عن الأغراض السياسية التي صُمِّمت لخدمتها، فبعضها حرفي صمَّمته الدولة، وبعضها عشوائي صمَّمه المستوطنون، ويعكس بعضه نمطا اشتراكيا، في حين صُمِّم بعضه الآخر ليشبه فكرة الضواحي الأميركية مستخدما أحدث الطرز العسكرية ليحقق أقصى حماية.

CORRECTS DATE AND LOCATION OF PHOTO: Israeli settlers look towards their neighboring village the morning after a Palestinian gunman killed Tzeela Gez, who was on her way to the hospital to give birth, outside of the West Bank settlement of Bruchin, Thursday, May 15, 2025. (AP Photo/Maya Alleruzzo)
مستوطنون إسرائيليون خارج مستوطنة بروشين في الضفة الغربية، الخميس 15 مايو/أيار 2025 (أسوشيتد برس)

اللبنة الأولى

حتى قبل عام 1967، لم تكن المدن بعيدة عن خدمة الأغراض العسكرية. فقد سجَّل عام 1936 بداية استخدام نموذج الجدار والبرج، وكان لنجاح هذا النموذج دور كبير في صد الهجمات العربية، مما أسهم في رواجه الكبير، وقد تزامن البناء الكثيف لمستوطنات الجدار والبرج مع الثورة العربية التي اشتعل فتيلها عام 1936 وامتدت حتى عام 1939.

إعلان

صدرت وثيقة عسكرية باسم "المبادئ الأمنية في التخطيط للمستوطنات الزراعية والقرى العمالية" عام 1948 عن شعبة الاستيطان التابعة لهيئة أركان جيش الدفاع الإسرائيلي، وبها توجيهات أساسية لتنظيم الموشاف (نموذج استيطاني)، وهي توضح للمخططين ضرورة ابتكار نموذج تتراص فيه البيوت بكثافة بحيث لا تتجاوز المسافة بينها 30 مترا، وتتيح للمستوطنين حال تعرُّضهم للخطر الانسحاب إلى موقع أكثر أمنا، على أن يكون المحيط محميا وفق المبادئ العسكرية أيضا، ويوصي التقرير بأن تُخطَّط الطرق على شكل نجمة كي يُحاصر بسهولة الطرف المهاجم.

يوضح الدكتور أحمد حمدي عبد العظيم، المهندس المعماري والباحث المتخصص في تاريخ الفن والعمارة، خطط المعماري ألكسندر ليفي، أحد المعماريين البارزين داخل الكيان الصهيوني، ويستشرف الصراع المنتظر بين أصحاب الأرض والمستوطنين اليهود، فقد اقترح المعماري الإسرائيلي تعزيز الجانب الدفاعي في المستوطنات، وتجلَّى الحس الأمني للمعماري ذي الأصول الألمانية في تصميمه لنموذج قرية مُحصَّنة كانت عبارة عن مستطيل بفناء داخلي تُطل عليه جميع الوحدات مع حوائط خارجية تتضمن فتحات بالغة الصغر، في تصميم يشبه الحصن.

وقد حملت مستوطنات الحدود الشمالية لأرض فلسطين أيضا طابع العمارة الدفاعية، بداية باختيار موقع كل مستوطنة لتكون على مرمى بصر مستوطنة أخرى لتسهيل عملية الدعم حال حدوث هجوم.

ويعود بنا الدكتور عبد العظيم إلى حرب عام 1948، حيث كانت المستوطنات اليهودية، وخاصة تلك التي تقع قرب مناطق القتال، تُشكِّل نقاط تمركز للعصابات اليهودية. ونتيجة لدورها في تعزيز الأهداف القتالية للعصابات اليهودية، اعتُمِدت نمطا للتخطيط، فتحوَّلت المعسكرات المخصصة للقتال بدورها إلى مستوطنات زراعية.

كانت إحدى أبرز علامات هذا التحول تأسيس وحدة ناحال التي تعني الشباب الطليعي المقاتل، وهي وحدة في جيش الاحتلال تسمح بخدمة المدن. وتتلخص فكرة هذا السلاح في المزج بين أداء الخدمة العسكرية والمهام المدنية، إذ يتدرب المتطوعون داخلها ولا يخدمون مثل الوحدات العسكرية الاعتيادية، بل يكونون مصحوبين بأسرهم. وبالطبع عند انتهاء فترة الخدمة العسكرية تظل المستوطنة قائمة لتخدم المشروع العسكري في إطار ظاهرُه مدني.

هكذا تحولت النقاط الحدودية ظاهريا إلى مستوطنات زراعية، لكنها كانت في الحقيقة معسكرات للجنود برفقة أسرهم، وكان ذلك بأمر مباشر من مؤسس الدولة ورئيسها الأول بن غوريون، الذي رأى أن ساكني هذه الأماكن هم أول مَن سيتعرض للخطر، ولهذا يجب أن يكونوا ممن يُجيدون فنون القتال وحمل السلاح.

وقد ذكر ييغال آلون، أحد أبرز القيادات العسكرية في حرب التأسيس، أن تجمعات الناحال منحت الكيان الصهيوني ميزة سياسية كبيرة قبل تأسيس الدولة والجيش، فكانت بمنزلة وحدات عسكرية في صورة مستوطنات مدنية، وذكر أن المهمة التالية يجب أن تكون بناء مستوطنات مدنية تتخفى في صورة جيش، وهو ما حدث لاحقا في مواقع إستراتيجية تخدم المصالح الأمنية لدولة الاحتلال.

كانت الفكرة أكثر فاعلية من فكرة معسكر الجيش التقليدي، فبينما يعتمد المعسكر على مقومات الاستدامة من الخارج، فإن مجتمع الناحال يمتلك مقومات الاستدامة من الداخل. ففضلا عن البُعد العسكري، لدى مجتمع الناحال مزايا اقتصادية وزراعية تُمكِّنه في حالة السلم من الإسهام في الاقتصاد وخلق الوظائف وفرص العمل، وهو ما لا يوجد في معسكرات الجيش.

وهكذا بدت مدن الناحال المستترة باللباس المدني نموذجا أنجح من المعسكرات العسكرية، إذ تعني للمجند الانتماء والقدرة على الاستقرار مع الأسرة في المناطق الحدودية، لكن المناطق الأعمق هناك لم تكن في حاجة إلى مثل هذه المدن.

Israeli Finance Minister Bezalel Smotrich holds a map that shows the E1 settlement project during a press conference near the settlement of Maale Adumim, in the Israeli-occupied West Bank, Wednesday, Aug. 14, 2025. (AP Photo/Ohad Zwigenberg)
وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش يحمل خريطة توضح مشروع "E1" الاستيطاني بالقرب من مستوطنة معاليه أدوميم في الضفة الغربية المحتلة، الأربعاء 14 أغسطس/آب 2025 (أسوشيتد برس)

عمارة بملامح الخوف

يوضح الدكتور عبد العظيم كيف حملت المستوطنات ملامح مختلفة بحسب موقعها والهدف منها، ففي المناطق التي نجد فيها أسوارا حول المستوطنات يكون الهدف حفظ بقاء أو وجود دولة الاحتلال في هذا الموقع، وفي مناطق أخرى لا تحد المستوطنة أسوار لكي يمكن التوسع فيها لاحقا، وفي غلاف غزة كانت البيوت صغيرة، وفي السابق كانت تحاط بأشجار كبيرة بحيث لا يمكن تحديد موقع المستوطنة وتظل محمية.

إعلان

لا تعمل منظومة القبة الحديدية في الموقع القريب من غلاف غزة، وهو ما يجعله هدفا لصواريخ المقاومة، ولهذا فإن تصميمه يضم الكثير من الملاجئ التي يسهل الوصول إليها في ثوانٍ معدودة، وفيها أيضا تتبدى محاولات القائمين على العمارة إخفاء ملامح عمارة التحصين التي تُذكِّر طوال الوقت بحقيقة الصراع القائم، فتُخفى مسطحات الخرسانة المسلحة بالرسوم والجداريات، خاصة في المباني المخصصة للأطفال.

يختلف الطراز المعماري أيضا بحسب المنطقة، فالمستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، التي تتميز بنمط موحد نسبيا، بها مساحات خضراء ومنازل صغيرة مغطاة بالقرميد الأحمر، وتبدو أوروبية مُقحمة في المشهد الفلسطيني.

وقد بُنيت المستوطنات بوصفها يوتيوبيا مفقودة، لتجذب الشباب من الحركة الصهيونية إلى تلك الجنة التي لم يتسنَّ لهم العيش فيها في بلادهم، وكان تصميمها بأسطح القرميد مقصودا لتمييزها ومن ثم حمايتها. ولذا يكشف التصميم وحده قبل أي ملمح آخر أن هناك أعداء في داخل المدينة، مما يعني أنها ليست أرضهم، إذ كيف تُصمِّم قلعة تحمي فيها نفسك في قلب مدينتك.

في مقال نشرته مجلة الدراسات الفلسطينية بعنوان "عقلية الجدار اليهودية: الجذور الدينية والتطور التاريخي"، يوضح الدكتور أحمد هيكل، أستاذ الدراسات العبرية الحديثة بجامعة حلوان، كيف تعود جذور الأسوار إلى التاريخ القديم، وبينما تطورت المدن ولم تعد محاطة بالأسوار، فقد استمرت تميز مجتمعات اليهود الحديثة.

في دولة الاحتلال كانت مستعمرات السور والبرج دليلا واضحا على سيطرة عقلية التحصين، إذ كانت أهم عناصر العقيدة الأمنية الصهيونية، وتحولت عقلية الجدار من إرث تاريخي نابع من الرغبة في الانعزال وممارسة الطقوس في هدوء إلى متلازمة مرضية متأزمة عمَّقت الشعور بالتفوق العرقي، والقدرة على البطش بالأعداء، وهو ما استغلته الصهيونية ليكون أداة لتحقيق الأطماع الاستعمارية في فلسطين.

تحول الجدار إلى أداة استعمارية إذن، وصار السور يقمع الفلسطينيين ويعزلهم، وإن ظلت هذه الأسوار المنيعة والحصون القوية التي تصطبغ اليوم بصبغة عصرية في شكل جدار عازل وأسلاك شائكة تكشف عن سيطرة هواجس الشك والخوف والرعب الأمني لدى المجتمع المتحصن خلف الأسوار.

وتُعد الطرق الالتفافية ملمحا آخر لتطويق الفلسطينيين، وربط المستوطنات وتسهيل تنقل المستوطنين فيها بأسرع وقت ممكن. ووفقا لتقرير لمنظمة "هيومن رايتس ووتش" نُشر عام 2009، فإن المستوطنات الإسرائيلية تفرض تكاليف هائلة على السكان الفلسطينيين، وتستخدم نسبة كبيرة منها لحماية المستوطنات، وكان عدد الحواجز على الطرق نحو 630 حاجزا إلى جانب نقاط التفتيش.

اتحدت عناصر القوة، بحيث كانت مستوطنات غلاف غزة على سبيل المثال تؤدي دورا أمنيا وإستراتيجيا للكيان، إذ كانت خطوط الدفاع الأمامية وجزءا أساسيا من أدوات خنق القطاع وحصاره ومنع تمدده، كما شكَّلت حاجزا جغرافيا يعزل القطاع عن الضفة الغربية، ويقطع التواصل بين الفلسطينيين، في فترات ليست بعيدة بدت هذه المناطق آمنة إلى حد أن سكانها كانوا يجلسون لمشاهدة مناظر القصف الإسرائيلي على القطاع، في استمتاع مَن يشاهد عرضا سينمائيا.

هل تحقق الأمن؟

في مراحل مبكرة من عمر دولة الاحتلال، كان التحصين مهما لأنه يخلق الأساس لفكرة الأمان التي يقوم عليها استقدام المستوطنين، وهكذا كانت متطلبات تأسيس المستوطنة هي مواد بناء ومواد زراعة وسلاحا وطريقا سريعا. والمستوطنات الأولى، كما لخَّصها ليفي أشكول، صُمِّمت في البداية بوصفها وحدات عسكرية بثوب مدني، ثم مع الستينيات باتت تُصمَّم بوصفها مستوطنات مدنية بثوب عسكري.

ومع ذلك يقول الدكتور عبد العظيم في حواره مع "أبعاد" إن فكرة الأمن في المستوطنات محض وهم، وإنها تشبه معضلة السد. فالمستوطنون في ناحال عوز مثلا ليسوا محميين بالقبة الحديدية، ومُعرَّضون للصواريخ أكثر من غيرهم، لكن لديهم وهم الأمان، وربما يكون هذا أكبر صنيع أمكن لدولة الاحتلال صناعته، أن يعتقد المستوطن أنه يعيش في أمان في حين أنه ليس كذلك.

لم تكن فكرة التحصينات والتأكيد أن روح المستوطن غالية وتستحق المزيد من الحماية والتحصين إلا سببا للمزيد من عسكرة المدن، فمدينة مثل ناحال عوز تُستخدم محطةً للهجوم على غزة، وما إن تضرب المقاومة في المدينة حتى يُثار الحديث عن ضرب المدينة و"قتل المدنيين"، وهذه تحديدا فكرة المعسكر المدني الحربي.

إعلان

ويستشهد عبد العظيم هنا بما حدث في حرب 1967 ليعبر عن مكانة المستوطنات وساكنيها في دولة الاحتلال، بينما اضطرت الحكومة المصرية لإجلاء نحو 700 ألف مواطن مصري في مدن القناة لحمايتهم من الخطر، كانت دولة الاحتلال تؤسس مزيدا من المستوطنات جزءا من عملها العسكري.

ويكشف الدكتور عبد العظيم في كتابه "كنيس الخراب، الصهيونية والاستيطان والعمارة" عن ملامح أخرى غير عادية في مدن الكيان المحتل، إذ تكشف المستوطنات عن التفرقة بين مواطني الكيان بحسب الأعراق والخلفيات الثقافية، مع التفرقة مثلا بين اليهود الأشكيناز الذين رأوا أنهم مؤسسو الدولة، واليهود العرب الذين يتمركزون في المستوطنات القريبة من غلاف غزة.

الصنوبر في مواجهة أشجار الزيتون

تكشف سمات أخرى للمدن التي صمَّمها الاحتلال عن غياب الأصالة، وعن محاولات إضفاء ملامح كاذبة على المدن الناشئة حديثا، فقد مزج تصميم مدينة تل أبيب خليطا من أبرز التيارات المعمارية، مثل المدارس الحداثية الأوروبية وبعض العناصر الشرقية التي منحت المدينة طابعا مختلفا في العمارة.

لكن المدينة التي بُنيت على أنقاض مدينة يافا الفلسطينية صارت أهلا للحفظ والتوثيق بوصفها "المدينة البيضاء" وفقا لليونسكو عام 2003، وهكذا تقترن تل أبيب باسم المدينة البيضاء في محاولة لتحويل الأنظار عن تاريخ المدينة وتجاهل الدور السياسي والاستعماري لها، وعن موقعها في الصراع القائم، الذي يوحي بأنها مدينة للسلام، وهي إحدى محاولات إضفاء الهوية على تلك المدن الحديثة.

تتبين الملامح الدخيلة في عناصر متعددة في المستوطنات إذن، حتى في النباتات، التي ربما تلخص هي نفسها فكرة المواجهة. فبعد شهور من إعلان تأسيس دولة الاحتلال، وإزالة نحو 500 قرية فلسطينية، ولإتمام محاولات إخفاء معالمها، استورد الصندوق اليهودي 10 آلاف من شجر صنوبر والسرو من أوروبا ليغرسها في أرض فلسطين في مواقع القرى المحطمة، لإخفاء آثار الماضي الدموي في أعوام التهجير والحرب، وليبدو مشهد المدن الجديدة بطلَّة أوروبية.

A plane uses a fire retardant to extinguish a fire burning in a forest near Jerusalem, Wednesday, April 30, 2025. (AP Photo/Mahmoud Illean)
طائرات إطفاء استدعيت للعمل على إخماد الحريق (الفرنسية)

هكذا اختفت معالم شجر الزيتون الذي يعتبره الاحتلال شجرا "فلسطينيا"، لكن شجر الصنوبر لم يصمد، ويُحمِّل حكومة الاحتلال تكلفة عالية إلى اليوم بسبب عدم ملائمته للطبيعة المحلية والمناخ.

وعبر السنوات لم تسلم غابات الأشجار من الأمراض والآفات، كما كانت عُرضة للجفاف والحرائق التي تلتهم آلاف الدونمات كل بضع سنوات، وتزايدت وتيرة تلك الحرائق في السنوات الأخيرة بسبب التغير المناخي.

لا تزال محاولات طمس تاريخ الأرض وإخفاء ملامح استيطانها بالقوة مستمرة إذن، لكن أمارات عدم جدواها لا تزال تتكشف، والأسوار التي شُيدت لتحقيق الأمن تتسبب في تعميق حالة العداء والكراهية بين الموجودين على جانبَيْ السور، وتُضفي حالة من الغموض والتربص، وهو خوف يجعل الاستقرار مستحيلا.

0 تعليق