"أفضل طريقة لهزيمة عدوك أن تجعله يقاتل نفسه" هذه المقولة الشهيرة للفيلسوف الإيطالي نيكولو مكيافيلي تعبر بشكل كبير عن طريقة لمكافحة البعوضة الأشهر في العالم "الكيولكس" أو ما تسمى "البعوضة المنزلية". وقد توصل لها فريق بحثي مشترك من قسم علم الحيوان بكليتي العلوم بجامعتي حلب السورية والملك سعود بالسعودية.
ووجد الباحثون في الدراسة المنشورة بدورية "جورنال أوف جينتيك إنجنيِرينغ أند بايوتكنولوجي" أن بكتيريا "وُلباخيا" التي تحملها عينات البعوض المعزولة من مدينة حلب في أحشائها، يمكن أن تكون السلاح الذي يتم توظيفه لقطع نسل هذه البعوضة، ومن ثم القضاء عليها تدريجيا دون الحاجة لاستخدام المبيدات.
ولم يكن الفريق البحثي يستهدف هذا الاكتشاف في حد ذاته، لكن المصادفة قادتهم إلى أن يكون واحدا من أهم النتائج التي شملتها دراستهم، والتي سيتم اختبارها في تجارب عملية لاحقة، لإقرار هذا الحل في مواجهة هذه البعوضة التي حصدت أرواح الملايين بنقلها أمراضا قاتلة كحمى الضنك وفيروس غرب النيل.
لماذا دراسة بعوضة "الكيولكس"؟
قصة هذا الاكتشاف المهم، كما تحكي للجزيرة نت الدكتورة ريم العجمي، أستاذة علم الحشرات بقسم علم الحيوان بكلية العلوم جامعة الملك سعود والمشاركة بالدراسة، بدأت من اهتمام كبير لدى الفريق البحثي بدراسة بعوضة "الكيولكس" في مدينة حلب لأنها أحد أهم أنواع البعوض المسؤولة عن نشر فيروسات مثل فيروس غرب النيل وحمى الضنك بمنطقة البحر المتوسط.
وتقول الدكتورة ريم "أظهرت أبحاث سابقة أن مجتمع البكتيريا الذي يعيش داخل البعوض، والمعروف باسم ميكروبيوتا (البكتيريا النافعة) يمكن أن يؤثر على مناعة البعوض المعوية، وتكاثر مُسببات الأمراض، وقدرته على الانتقال. وبمعنى آخر، يُمكن لنوع البكتيريا التي يستضيفها البعوض أن يُحدد كونه سيصبح ناقلا جيدا أم سيئا للفيروسات".
إعلان
وتضيف "بما أن المجتمعات البكتيرية داخل البعوض تختلف باختلاف الموقع الجغرافي والبيئة، كان من المهم دراستها في سياق محلي. وفي هذه الحالة، وفي مدينة حلب، فُهم أن حالة البكتيريا التي تعيش طبيعيا داخل المجتمع السوري قد تساعد العلماء نهاية المطاف على تعديل ميكروبيوم البعوض لجعله أقل ملاءمة لمُسببات الأمراض، وهو نهج جديد وواعد لمكافحة البعوض".
ويوضح الدكتور أحمد اللاحم أستاذ علم الحشرات بجامعة حلب والباحث المشارك بالدراسة -في تصريحات للجزيرة نت- أنه تم اختيار مدينة حلب تحديدا لإجراء تلك الدراسة، لأنهم لاحظوا أيضا أنه لم تُجر أي أبحاث سابقة على بعوض "الكيولكس".
ويقول اللاحم، والذي لعب دورا مهما في جمع العينات خلال فترة الدراسة، أن الأبحاث السابقة على هذه البعوضة كانت محدودة للغاية بسبب الظروف السياسية في البلاد خلال السنوات الماضية، ورغم ذلك فإن الدراسات القليلة التي أجريت كشفت عن خطورتها، والحاجة للمزيد من البحث.
وأثبتت دراسة محلية نُشرت عام 2018 وجود فيروس غرب النيل في بعوضة "الكيولكس" في حلب باستخدام تقنيات مناعية متقدمة، كما أشار المرجع العلمي الصادر عن ستيفن بيرغر عام 2022 إلى تسجيل حالات بشرية إيجابية المصل لفيروس غرب النيل في سوريا.
وعام 2013، أبلغت دراسة أخرى عن تسجيل إصابات بفيروس غرب النيل الذي تنقله هذه البعوضة في منطقة بلاد ما بين النهرين على الحدود السورية التركية.
وبالإضافة لكل ذلك، يشير الدكتور اللاحم إلى أن هذا النوع يتميز بتنوعه الحيوي الكبير، إذ توجد له أنماط حيوية متعددة يختلف بعضها عن الآخر في السلوك والقدرة على نقل الأمراض. فبعض الأنماط، على سبيل المثال، يمكنها تطوير بيوضها دون الحاجة إلى وجبة دم، بينما يحتاج بعضها الآخر إلى التغذية على الدم لإتمام دورة حياتها.
ويقول الباحث إن "هذا الاختلاف في الأنماط الحيوية يؤدي بالضرورة إلى اختلاف مسببات الأمراض التي ينقلها كل نوع من البعوض".
ويضيف أن أنثى بعوضة "الكيولكس" تعد من النواقل الرئيسية لفيروس غرب النيل، وفيروس حمى الضنك، كما يمكنها نقل عوامل ممرضة أخرى بشكل ميكانيكي نتيجة لتعرضها لمياه ملوثة، مثل مياه نهر قويق في حلب التي تمتلئ بمياه الصرف الصحي الحاملة للبكتيريا والفيروسات، ويُحتمل أن تصل هذه الكائنات الدقيقة إلى أمعاء اليرقات، وتبقى هناك حتى مرحلة البلوغ، مما يرفع خطر انتقالها إلى الإنسان أو الحيوان عند لسعهم من قبل البعوض البالغ.
" frameborder="0">
ماذا وجد الباحثون؟
وانطلاقا من هذه الأهمية لدراسة البعوضة الأشهر في العالم، جمع الباحثون 758 بعوضة من نوع "الكيولكس" من المناطق الحضرية والريفية في حلب باستخدام مصائد مُزودة بثاني أكسيد الكربون، وحلل الباحثون المجتمعات البكتيرية بداخل البعوضة باستخدام كل من طريقتي الاستزراع واختبار تفاعل البوليميراز المتسلسل (بي سي آر) وكشفت النتائج أن كلا من ذكور وإناث البعوض يحملان نفس البكتيريا.
وتمكن الباحثون من تحديد 9 أنواع من البكتيريا تعيش داخل هذا أجسام البعوض، بما في ذلك الإشريكية القولونية، والمكورات العنقودية الذهبية، والكلبسيلة الرئوية، والمطثية الكزازية، وهي بكتيريا مرتبطة بأمراض بشرية خطيرة.
إعلان
وتقول الدكتور ريم إن "وجود هذه البكتيريا لدى البعوض ليس بالأمر المستغرب، خاصة وأن يرقات البعوض تنمو في المياه الملوثة أو الراكدة التي قد تحتوي على فضلات بشرية أو حيوانية، وغالبا ما تلتقط هذه البكتيريا من البيئة وتصبح جزءا من ميكروبات الأمعاء الطبيعية للبعوض".
وتستطرد "مع ذلك، فإن وجود هذه البكتيريا لا يعني بالضرورة قدرة البعوض على نقلها إلى البشر، فاكتشافها يعكس في المقام الأول التلوث البيئي، وليس قدرة مؤكدة على نشر هذه الممرضات".
وتضيف أنه "لتحديد ما إذا كان البعوض قادرا على نقل هذه البكتيريا بنشاط (وليس مجرد حملها) ستكون هناك حاجة إلى دراسات تجريبية إضافية لاختبار كفاءته في نقل الأمراض، أي قدرته على اكتساب البكتيريا والاحتفاظ بها ونقلها لمضيف آخر".
مقاومة حيوية واعدة
وإضافة لهذا الخطر المحتمل الذي يمثله حمل بعوضة "الكيولكس" لهذه الأنواع البكتيرية، كان من بين النتائج الواعدة التي لم تكن في الحسبان اكتشاف بكتيريا "وُلباخيا" داخل خلايا البعوضة.
ويقول اللاحم "هذه البكتيريا من المعروف أنها لا تؤذي البشر، لكنها تُؤثر على تكاثر البعوض، حيث تسبب ما يسمى عدم التوافق السيتوبلازمي بين البويضات والنطف، مما يؤدي إلى فشل الإخصاب وموت الأجنة. أي أننا ببساطة، يمكننا أن نستخدمها لنقضي على البعوض من الداخل".
ويضيف "تخيل أن يتم إطلاق ذكور بعوض مصابة ببكتيريا (وُلباخيا) في الطبيعة، ستتزاوج هذه الذكور مع الإناث السليمة، لكن بيوضها لن تفقس. وبهذه الطريقة، يمكن تقليل أعداد البعوض دون استخدام مبيدات كيميائية أو الإضرار بالنظام البيئي".
ويخطط الفريق البحثي للانتقال إلى مرحلة التجارب المخبرية، حيث سيعملون على عزل سلالات محلية من بكتيريا "وُلباخيا" واستخدامها في المكافحة الحيوية لأنواع متعددة من الحشرات الناقلة للأمراض.
ويحلم الباحثون بتوسيع دراستهم لتشمل حشرات أخرى مثل ذبابة الرمل التي تنقل طفيليات الليشمانيا المسببة لداء اللشمانيا، وبعوض "الأنوفيلس" الذي ينقل طفيلي البلازموديوم المسبب للملاريا.
ويؤكد الباحث اللاحم أن عملهم مجرد خطوة في رحلة طويلة، ربما تقود مستقبلا إلى استبدال المبيدات الكيميائية القاسية ببكتيريا نافعة صديقة للبيئة.

0 تعليق