Published On 25/11/202525/11/2025
|آخر تحديث: 21:28 (توقيت مكة)آخر تحديث: 21:28 (توقيت مكة)
يقف العالم اليوم أمام تحولات بنيوية عميقة تُعيد تشكيل موازين القوة وتزيد احتمالات اندلاع صراع دولي كبير ينهي فترة الاستقرار والسلام النسبيين بين القوى العظمي التي استمرت 80 عاما منذ الحرب العالمية الثانية، وهي أطول فترة سلام في التاريخ، ما لم تجدد القوى الكبرى إستراتيجياتها وتعدل سلوكها بما يتناسب مع طبيعة النظام الدولي الذي يتغير بسرعة.
هذا ما ورد في مقال مطول نشرته مجلة فورين أفيرز الأميركية أعده الكاتبان غراهام أليسون وجيمس وينفيلد (جونيور) وضعا فيه التحولات بين القوى الدولية في سياق تاريخي طويل يُظهر أن فترات الاستقرار بين القوى الكبرى ليست سوى استثناء نادر، بينما العادة الغالبة في العلاقات الدولية هي تنافس مستمر ينتهي غالبا بصدام واسع.
اقرأ أيضا
list of 2 items end of listويوضح الكاتبان أن المؤشرات الحالية تدل على أن هذا الاستثناء يقترب من نهايته، وعلى رأس هذه المؤشرات هو تراجع الهيمنة الاقتصادية الأميركية، وهو عامل يرى الكاتبان أنه يرفع كثيرا من مخاطر الصراع.
بروز عالم متعدد الأقطاب
ويشيران إلى أن أميركا، بعد الحرب العالمية الثانية، كانت تملك نصف الناتج الإجمالي العالمي، مستفيدة من الدمار الواسع الذي لحق بأوروبا وآسيا. ومع نهاية الحرب الباردة، تراجعت الحصة الأميركية إلى الربع. أما اليوم، فلم يعد نصيبها يتجاوز السبع تقريبا، جراء صعود قوى اقتصادية جديدة وبروز مراكز إنتاج عالمية بديلة.
ويرى أليسون ووينفيلد أن هذا التحول في الوزن النسبي للقوة الاقتصادية لا يعني فقط تراجعا في النفوذ الأميركي، بل يشير أيضا إلى تشكُّل عالم متعدد الأقطاب يمكن فيه لقوى كبرى وإقليمية، مثل الصين والهند وروسيا والاتحاد الأوروبي، التحرك داخل نطاقات نفوذها دون الحاجة لأخذ الإذن من واشنطن أو الخوف من تدخلها المباشر.
ازدياد احتمالات الانزلاق
وينظر الكاتبان إلى أن هذه الظاهرة ليست مجرد تحول اقتصادي، بل هي عامل بنيوي يزيد احتمالات النزاعات. فالتاريخ -من أثينا وإسبرطة إلى القوى الأوروبية قبل الحربين العالميتين- يعكس أن لحظات تساوي القوة بين دول صاعدة وأخرى مهيمنة غالبا ما تنتهي بحرب فاصلة.
إعلان
ويزداد الوضع خطورة حين تبالغ القوة المهيمنة في التزاماتها المالية، كما يرى الخبير الاقتصادي راي داليو الذي يعتبر أن الولايات المتحدة تجاوزت حدود قدرتها في الإنفاق والاقتراض، وهو ما يضعف قدرتها على الحفاظ على تفوقها.
ثم ينتقل الكاتبان إلى عامل ثانٍ يزيد من احتمالات الانزلاق نحو صراع عالمي، وهو الإفراط في التوسع العسكري. ويضربان مثالا بالانخراط الأميركي المطوّل والمكلف في العراق وأفغانستان، والذي استنزف القدرات القتالية والمالية الأميركية، وشتت الانتباه عن التهديدات الحقيقية التي كان ينبغي التركيز عليها، مثل صعود الصين وتطور قدرات روسيا.
تآكل القوة الأميركية
ويستشهد الكاتبان بمقولة المفكر والقائد العسكري الصيني الشهير لسن تزو، الذي عاش في القرن السادس قبل الميلاد: "حين تنخرط الجيوش في صراعات مطوّلة، ستعجز موارد الدولة عن الإيفاء". وهذا بالضبط ما حدث للولايات المتحدة، حيث أدى الإصرار على خوض صراعات لا تمس المصالح الحيوية مباشرة إلى تآكل القوة العسكرية وعرقلة تحديثها وإضعاف جاهزيتها.
ويضيف أليسون ووينفيلد، أن المؤسسة الأمنية الأميركية دخلت في حلقة مفرغة مدعومة من الكونغرس والصناعات الدفاعية، حيث يُطلب المزيد من الإنفاق بدل إعادة التفكير جذريا في الإستراتيجية، كما استمرت هذه المؤسسة في معالجة المشاكل بزيادة الميزانيات العسكرية، وهو توجه لا يصحّح الخلل البنيوي في توزيع الموارد ولا يعالج جوهر التحديات المتصاعدة.
والعامل الثالث، وهو الأكثر إثارة للقلق من وجهة نظر الكاتبين، يتمثل بالانقسامات الداخلية العميقة داخل الولايات المتحدة. فالاستقطاب السياسي الحاد بين الحزبين، والتغير المستمر في توجهات القيادة السياسية حول دور أميركا العالمي، وتناقض المواقف بين الإدارات المتعاقبة، كلها عوامل تضعف قدرة الدولة على انتهاج سياسة خارجية مستقرة ومتماسكة. وفي لحظات التحول الجيوسياسي الكبرى، تحتاج الدول إلى حدٍّ أدنى من الإجماع الوطني، وهو ما يتراجع اليوم بوضوح في الولايات المتحدة.
أليسون وونفيلد:
العالم يقف على أعتاب مرحلة شديدة الحساسية، حيث تتراجع القدرة الأميركية على ضبط النظام الدولي، وتصعد قوى جديدة، وتتصاعد التوترات، وقد يؤدي ذلك إلى صراع كبير ما لم تتم إدارة التحولات بحكمة ووعي إستراتيجي.
حالة من الارتباك
ويشير الكاتبان إلى أن الإدارة الحالية في واشنطن تعمل على إعادة تشكيل واسع لمعظم العلاقات والاتفاقيات الدولية، ما خلق حالة من الارتباك بين الحلفاء والخصوم على السواء. فالتراجع عن التزامات طويلة الأمد، أو قلب هياكل التعاون الدولي دون رؤية واضحة أو بدائل متينة، يعكس اضطرابا في مراكز صنع القرار، ويضعف القيادة الأميركية للنظام الدولي الذي ساهمت في بنائه.
ويقدّم المقال إطارا تحليليا أوسع عبر الحديث عن دور "الدورات الجيوسياسية الطويلة" التي تشهدها الأمم. فهذه الدورات لا تدوم، وهي عادة تنتهي عندما تعجز القوى المهيمنة عن التكيف مع الواقع الدولي الجديد.
والسؤال المطروح اليوم على الأميركيين، كما يرى أليسون ووينفيلد، هو ما إذا كانوا قادرين على إدراك خطورة المرحلة، وعلى تطوير رؤية جديدة قادرة على تجديد قدرتهم على إدارة النظام الدولي واحتواء القوى الصاعدة دون انزلاق إلى حرب كبرى.
تكرار نفس الأخطاء
ويستشهدان بفكرة للفيلسوف الألماني فريدريك هيغل: "نتعلم من التاريخ إننا لا نتعلم من التاريخ"، ليشيرا إلى أن البشرية دأبت على تكرار الأخطاء نفسها، خصوصا حين يتعلق الأمر بموازين القوى وصعود قوى جديدة.
إعلان
لكنهما يذكّران أيضا بأن الإستراتيجيين الأميركيين في حقبة الحرب الباردة قد تمكنوا من صياغة مقاربات جديدة، تجاوزت الحكمة التقليدية السائدة آنذاك، وأرست أسس "السلام الطويل" الذي دام دون حرب مباشرة بين القوى الكبرى.
ويذهب المقال إلى أن الحفاظ على هذا الاستثناء العالمي -السلام النسبي الطويل- يتطلب اليوم جهدا مشابها في مستوى الابتكار الإستراتيجي، مع قدر كبير من العزم الوطني والقيادة السياسية الواعية.
تجنب الانفجار العالمي
ويؤكد الكاتبان من جديد أن النظام الدولي، ورغم أنه يمر بمرحلة انتقالية خطرة، فإن تجنب الانفجار العالمي ليس مستحيلا، لكنه يتطلب من القوى الكبرى -وخاصة الولايات المتحدة- إعادة تقييم شاملة لدورها، وقدراتها، وأولوياتها، وإستراتيجياتها، بعيدا عن الإفراط في التوسع العسكري والمالي، وعن الانقسامات السياسية التي تشلّ صانع القرار.
وعموما، يقدم المقال رؤية شاملة تحذّر من أن العالم يقف على أعتاب مرحلة شديدة الحساسية، حيث تتراجع القدرة الأميركية على ضبط النظام الدولي، وتصعد قوى جديدة، وتتصاعد التوترات، الأمر الذي قد يشكل خليطا قد يقود إلى صراع كبير ما لم تتم إدارة التحولات بحكمة ووعي إستراتيجي.
ويؤكد الكاتبان أيضا أن أمام الولايات المتحدة -وربما أمام العالم- فرصة لتأجيل هذا الصدام، لكن اغتنام هذه الفرصة يتطلب إرادة سياسية ورؤية إستراتيجية عميقة، تشبه في جرأتها تلك التي رافقت صياغة إستراتيجيات الحرب الباردة.

0 تعليق