النسيان على الشاشة.. كيف صوّرت السينما مرض ألزهايمر؟ - الأول نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

رغم قسوة ألزهايمر وتمزيقه البطيء لذاكرة الإنسان، تحاول السينما أن تراه بعين أكثر شاعرية؛ فلا تقدّمه كفاجعة طبية جامدة، بل كرحلة إنسانية تتوارى فيها الأسماء والوجوه، ويبقى الحب معلّقًا في الهواء كخيط أخير لا ينقطع.

ورغم أن مئات الأفلام تناولت هذا العقد المؤلم من التلاشي، فإن قلة قليلة -لا تتجاوز 10 أعمال- نجحت في لمس جوهر التجربة وتقديم معناها العميق، من أداء السير أنتوني هوبكنز المبهر في "الأب" (The Father)، إلى حضور جوليان مور الآسر في "لا تزال أليس" (Still Alice)، وغيرها من الأعمال التي حفرت أثرها في الذاكرة.

اقرأ أيضا

list of 2 items end of list

في هذه الأفلام العشرة، يتحول النسيان إلى لغة جديدة، والذبول إلى مساحة للحنو، والغياب إلى مرآة تعكس ما تبقى من الروح. وهناك، في المسافة بين ما كان وما يتلاشى، تنجح السينما في تحويل الزهايمر -في أفضل تجسيداته- من مأساة صامتة إلى قصيدة عن إنسان يفقد طريقه إلى ماضيه ويواصل البحث عن ذاته.

"الأب".. تلاشي الذاكرة وانطفاء الذات

يقدم فيلم" الأب" 2020 (The Father) رؤية استثنائية لمرض ألزهايمر، باعتباره تجربة ذهنية يعيشها المشاهد لحظة بلحظة. المخرج الفرنسي فلوريان زيلر يختار أن يضع المشاهد داخل عقل المريض، في عالم تتبدل فيه الوجوه، وتتغير تفاصيل المكان، وتتصدع الأزمنة في لقطة واحدة.

لا يقدّم الفيلم سردا تقليديا عن أب يفقد ذاكرته، بل يغرقنا في تلك المتاهة الداخلية التي تتحول فيها الحياة اليومية إلى أحجية. الأداء المذهل لأنتوني هوبكنز يحول فوضى العقل إلى مرآة مرعبة للشيخوخة، بينما تكثف أوليفيا كولمان هشاشة المحيطين حين يصبح المرض سيدًا على التفاصيل الصغيرة.

حصد الفيلم إشادات نقدية عديدة، لأنه لم يتعامل مع ألزهايمر بوصفه زوالا للذاكرة فقط، لكنه جسّد انهيارا للوجود ذاته، حيث يصبح العالم هشا، غير مضمون، وقابلا للانكسار في كل لحظة. في هذا العمل، يتحول المرض إلى تجربة حسية تتجاوز الطب وتصل إلى الفن الخالص، في عمل يلامس أعمق مخاوف الإنسان من ضياع الذات.

فيلم The Father المصدر: IMDB
فيلم "الأب" تجربة ذهنية يعيشها المشاهد لحظة بلحظة  (آي إم دي بي)

"لا تزال أليس".. الانهيار الهادئ للهوية

إعلان

في فيلم "لا تزال أليس" (Still Alice) الصادر عام 2014، يقدّم المخرجان ريتشارد غلاتزر وواش ويستمورلاند سردا هادئا في إيقاعه، قاسيًا في جوهره. فبطلة الفيلم، أستاذة اللغويات التي بُنيت هويتها على الكلمات، تبدأ تدريجيا بفقدان المفردات التي شكّلت حياتها ومهنتها. هنا يكمن جمال الفيلم: التناقض بين وعيها الأكاديمي الحاد وبين ارتباكها اليومي الذي يبتلع ذاتها شيئًا فشيئًا.

تقدّم جوليان مور أداءً استثنائيًا، مليئًا بصمت الانكسار. تلتقط الكاميرا لحظات انطفاء الضوء في عيني امرأة كانت واثقة من كل كلمة تنطق بها. يبتعد الفيلم عن التعقيد البصري، ويعتمد على لقطات طويلة تتيح للمشاهد متابعة وجه يبحث عن اسمٍ بسيط أو عنوان منزله. هذا الاقتصاد في الأسلوب يعمّق التجربة، ويحوّل المرض إلى مساحة مفتوحة للخوف والذهول ومحاولات المقاومة المتكررة.

قوة الفيلم أنه يُظهر ألزهايمر كمسار متسلّل؛ يمحو المعرفة تدريجيا، ويأخذ الذاكرة جزءًا بعد الآخر، حتى يجد الإنسان نفسه محاطًا بحياته دون أن يعرفها.

فيلم Still Alice
الملصق الدعائي لفيلم "لا تزال أليس" Still Alice (الجزيرة)

"بعيدًا عنها".. حب بلا ذاكرة

يعود فيلم "بعيدا عنها" (Away from Her) الصادر عام 2006 إلى قلب التجربة الإنسانية، ليحكي قصة زوجين يصطدمان بالانسحاب الهادئ للذاكرة. تدخل "فيونا" دار رعاية بعدما يبدأ تدهور حالتها، ويستمر زوجها في زيارتها ليكتشف أنها لم تعد تتذكره، بل أصبحت متعلّقة بمريض آخر.

الفيلم لا يقدّم ألزهايمر كمرض فحسب، بل كزلزال عاطفي يترك الحب قائما لكن بلا ذاكرة تحمله. تتحول الطبيعة الكندية الباردة -الثلج، والصمت، والمساحات الفارغة- إلى استعارات مرئية لفقدان الدفء والحميمية. ويمنح الإخراج الهادئ لسارة بولي كل مشهد ثقلا إنسانيا؛ لحظة لا تُنسى، ممزوجة بالحزن والوفاء معا.

ما يجعل الفيلم مؤثرا، هو أن ألزهايمر ليس الخسارة الأكبر، بل ما يتركه من آثار في قلب من ينتظر، ومن يعتني، ومن يحب رغم الغياب. فالمرض هنا اختبار للوفاء، ورحلة حب بلا اعتراف، وبلا مقابل، وبلا حضور متبادل، حب يقف وحيدًا في مواجهة النسيان.

"آيريس" امرأة تتلاشى مرتين

يروي فيلم "آيريس" 2001 (Iris) حياة الكاتبة البريطانية آيريس مردوخ عبر زمنين متوازيين، في شبابها المتوهج وشيخوختها التي يحاصرها ألزهايمر. هذا البناء السردي المزدوج يمنح المرض بعدا فلسفيا، ويسأل، كيف يمكن للذهن الذي صاغ روايات عميقة وفلسفات إنسانية أن يتفكك بهذه السهولة؟

يقدّم الفيلم انعكاسا مؤلما عن هشاشة العبقرية، وعن الحب الزوجي الذي يتحول إلى طقس يومي من الرعاية. يتابع الزوج حياة زوجته الذابلة، يحاول أن يبقيها متماسكة قدر الإمكان، بينما يتآكل الجزء الأكثر إشراقا فيها. الفيلم ليس سيرة ذاتية، بل تساؤلا حول ماهية الوعي الإنساني، وحول قدرة المرض على ابتلاع تاريخ كامل دون أن يترك أثرا سوى الذكريات المتبقية لدى الآخر.

فيلم Iris المصدر: IMDB
فيلم "آيريس" تروي حياة الكاتبة البريطانية آيريس مردوخ عبر زمنين متوازيين (آي إم دي بي)

"الحب".. قسوة الحقيقة

يختار المخرج مايكل هانيكه في فيلمه "الحب" 2012 (Amour) أن يتعامل مع المرض بوصفه انهيارا وجوديا، لا طبيا فقط. الزوجة "آن" تدخل مرحلة تدهور جسدي وعقلي تدريجي، والزوج "جورج" يعتني بها في شقتهما التي تتحول إلى مسرح للأفول. يتجنب الفيلم أي ميلودراما، ويبقي الكاميرا ثابتة، تراقب بصمت إنساني قاس. لا موسيقى، لا مؤثرات، فقط الحقيقة، كما هي، بلا تهذيب.

إعلان

في هذا الفيلم، يصبح ألزهايمر خلفية لمفهوم أوسع حول كيفية مواجهة الإنسان لفقدان من يحب، وكيف يمكن للحب أن يستمر حين يصبح الآخر ظلا لما كان؟ يقدم مايكل هانيكه في هذا العمل فيلما عن الحياة في أضعف لحظاتها، وعن الكرامة حين يضعف العقل والجسد.

فيلم Amour المصدر: IMDB
فيلم "الحب" 2012 (Amour) يتعامل مع المرض بوصفه انهيارا وجوديا لا طبيا فقط (آي إم دي بي)

"أغنية لمارتن".. حزن غير معلن

في الفيلم السويدي "أغنية لمارتن" (A Song for Martin) الصادر عام 2001، يقدّم المخرج بيل أوغست واحدة من أكثر صور ألزهايمر قربًا إلى الحياة اليومية. مارتن، الموسيقي الشهير، يبدأ بفقدان ذاكرته شيئًا فشيئًا، ومع كل تراجع يتلاشى جزء من الموسيقى التي شكّلت تاريخه وهويته. زوجته تراقب يوميا ملامح الرجل الذي أحبّته وهي تنحسر، بينما يتحوّل دورها تدريجيا من شريكة حياة إلى راعية كاملة.

يمتاز الفيلم ببناء حساس يعتمد على الموسيقى كمرآة لانهيار البنية العقلية للبطل، يقابلها صمت طويل يعبّر عن الحزن غير المعلن. إنه فيلم عن الخوف من فقدان الهوية، وعن القوة المطلوبة للاستمرار في علاقة لم يعد فيها الطرف الآخر حاضرًا بكامل معناه، لكنه باقٍ بالروابط القديمة التي ترفض الذبول.

"حيّ في الداخل".. تفعيل الذاكرة بالموسيقى

يقدّم الوثائقي "حيّ في الداخل" (Alive Inside) الصادر عام 2014 تجربة مدهشة تستخدم الموسيقى كوسيلة لاستعادة أجزاء من الذاكرة لدى المصابين بألزهايمر. يتابع الفيلم مبادرة اجتماعية تمنح المرضى سماعات وأغاني من ماضيهم؛ وما يحدث بعد ذلك أشبه بالمعجزة: وجوه خاملة تضيء فجأة، مرضى صامتون يتكلمون، يتحركون، يبتسمون.

قوة الفيلم لا تكمن فقط في الفكرة العلمية، بل في اللحظة الإنسانية التي تعود فيها الحياة إلى عيون انطفأت بفعل المرض. يفتح العمل بابًا للتأمل في تأثير الفن على الذاكرة، وفي القيمة العميقة للصوت كجسر يحمل الإنسان إلى ماضيه الذي كان يبدو مفقودا.

"شكاوى الابنة البارة".. حب غير مشروط

في وثائقي "شكاوى الابنة البارة" 1994 (Complaints of a Dutiful Daughter)، تقدم المخرجة ديبورا هوفمان تجربة عبارة عن سنوات من العناية بأمها المصابة بألزهايمر. من خلال أرشيف العائلة والسرد الشخصي، يقدّم الفيلم صورة دقيقة عن صراع الابنة بين محاولة الشرح للأم ومحاولة فهم المرض.

تكتشف المخرجة أن طلبها المستمر بأن تتذكر الأم لم يعد منطقيا، وأن الحب في مرحلة المرض يصبح عملية تقبل أكثر منه محاولة إصلاح. الفيلم شهادة صادقة عن أن الذاكرة ليست شرطًا للحب، وأن العناية نفسها تصبح المعنى.

عقل يبحث عن مكان

يذهب وثائقي "أنت تنظر إلي وكأنني أعيش هنا ولا أعيش هنا" 2010 (You’re Looking at Me Like I Live Here and I Don’t) إلى حد بعيد في الصمت والحياد. يصور بالكامل داخل مؤسسة رعاية، ومن وجهة نظر امرأة مصابة بألزهايمر تحاول جاهدة أن تفهم العالم حولها.

غياب الراوي والموسيقى يعمق إحساس الاغتراب. نحن أمام امرأة تحاول أن تجد مكانها في عالم يتغير كل يوم، وتشعر أنها تعيش هنا ولا تعيش، كما يوحي العنوان. الفيلم تجربة بصرية ونفسية عن العزلة التي لا يستطيع المرضى التعبير عنها بالكلمات.

فيلمYou’re Looking at Me Like I Live Here and I Don’ t
الملصق الدعائي لفيلم "أنت تنظر إلي وكأنني أعيش هنا ولا أعيش هنا" (الجزيرة)

المعرفة تواجه الغياب

تقدّم سلسلة "مشروع ألزهايمر" 2009 (The Alzheimer’s Project) رؤية شاملة للمرض، تجمع بين البحث الطبي والسرد الإنساني. وتعالج السلسلة قصص المصابين، الأبناء الذين يعتنون بالآباء والأمهات، والتطورات العلمية، والتجارب العلاجية. وتظهر الحلقات أن فهم أالزهايمر لا يقتصر على العلوم الطبية، بل يشمل التجربة العائلية، والآثار النفسية، والتحديات المجتمعية.

0 تعليق