سلط معهد رويترز للصحافة الضوء على تجربة شبكة "عاين" الإعلامية في توثيق جرائم الحرب في السودان، بمراسلين سودانيين عملوا سرا وسط تهديدات متواصلة، عقب منع الصحفيين الدوليين من دخول البلاد.
و"عاين"، شبكة تأسست عام 2013 وحاليا تغطي الأحداث في مناطق الحرب في السودان، التي لا تغطيها وسائل الإعلام المحلية، ويصعب على المؤسسات الإعلامية الدولية الوصول إليها، وفق تعريف الشبكة على موقعها الإلكتروني. وعلى الرغم من خسارة معظم إيراداتها بسبب التخفيضات التي فرضها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، واصل مراسلو الشبكة المخاطرة بحياتهم من أجل استمرار التغطية.
وبالنسبة لملايين السودانيين، أصبحت حقيقة الفظائع والتهجير نادرة مثل الطعام والماء والكهرباء.
"روعة "… شابة تحمل أسرتها وحكاية جرح لا يلتئم
روعة، شابة نازحة من الفاشر، كانت تحلم بإكمال تعليمها والوصول إلى الصف الأول الثانوي، لكن الظروف المعيشية القاسية أوقفت دراستها عند الصف الثامن. لم تجد من يعيلها أو يقف معها، فاضطرت للعمل في السوق لتساعد أسرتها بدل الجلوس في فصول… pic.twitter.com/BFL9LBiIJD— Ayin Network – شبكة عاين (@AyinSudan) November 26, 2025
وتقول بسمة شمس، وهي مهندسة في مدينة الأُبيض، عاصمة ولاية شمال كردفان: "كانت جميع الأخبار تأتي من قوات الدعم السريع أو الجيش السوداني، ولم يكن هناك صحافة مستقلة".
وبدأت شمس تنشر على موقع فيسبوك، وتشارك أخبار المعاناة اليومية والقصف مع أقاربها وزملائها السودانيين في الخارج. وبعد 3 أشهر من بدء الحرب، ربطها أحد أصدقائها على فيسبوك بشبكة "عاين" وهي مجموعة سرية من الصحفيين السودانيين الذين يعملون تحت أسماء مستعارة، وأخبروها بإمكانية الظهور ونقل ما يحدث في الأُبيض للعالم.
وتقول شمس: "لم أكن صحفية من قبل، لكنني فكرت، ولِمَ لا؟ كانت فرصة لتسليط الضوء على ما يحدث في مدينتي".
إعلان
" frameborder="0">
الهواتف المحمولة أكثر أمانا وسرعة
ويقول مدير تحرير "عاين" توم رودس: "لطالما كانت مهمتنا هي سد الفجوة بين العاصمة وبقية البلاد"، مضيفا أن الفريق بدأ بالهواتف المحمولة ومقاطع الفيديو التي يصورها عامة الناس، مؤكدا أنها كانت وسيلة أكثر أمانا وسرعة للقيام بالتغطية، على اعتبار أن الكاميرا الكبيرة، سوف تثير ردود فعل فورا وتلفت الانتباه.
وباستخدام هاتفها، وثقت شمس أهوال القصف بالطائرات المسيرة من قوات الدعم السريع ومعاناة مرضى الكلى في ظل نظام صحي مشلول، لكن تركيزها ظل منصبا على معركة الناس اليومية من أجل البقاء، حيث قدمت تقارير كثيرة عن ارتفاع الأسعار وأزمة المياه وانقطاع التيار الكهربائي الذي أثر على حياة الناس في المدينة.
كما التقطت شمس صورا تظهر صمود مجتمعها، بمن فيهم النساء والطلاب الذين يديرون بازارا لإغاثة ضحايا الحرب، والجهود الجماعية لإيواء العائلات النازحة من المناطق الأخرى المتأثرة بالحرب في المدارس، وتصميم الطلبة الذين يخوضون الامتحانات.
#Ayin_Photos | 13 November 2025
From Sudan’s Northern State, Ayin’s camera captures powerful photos from Al-Affad Camp, home to hundreds of families displaced from El Fasher in North Darfur.
Weary but resilient faces, and tents that hold long stories of escape and survival, as… pic.twitter.com/DnSRMqP3eC
— Ayin Network – شبكة عاين (@AyinSudan) November 13, 2025
مقتل 11 صحفيا على الأقل في الحرب
ووثقت لجنة حماية الصحفيين (CPJ) حالات قتل وضرب واعتقال واستنطاق، حيث قُتل ما لا يقل عن 11 صحفيا خلال الحرب، في حين يحتل السودان المرتبة 156 من بين 180 دولة في مؤشر حرية الصحافة العالمي.
وقالت سارة القضاة، مديرة اللجنة الدولية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إن الصحفيين يواجهون الجوع والعنف والاعتداء الجنسي، لكنّ كثيرين يصرون على محاولة تغطية الأحداث.
وأضافت أن التهديدات تتجاوز الخطر الجسدي، حيث يتعرض الصحفيون أيضا للإهمال الطبي والصدمات النفسية والرقابة، وهو مزيج يعكس مساع منهجية لإسكات الصحفيين.
الصحفي بوصفه مدني بموجب القانون الدولي الإنساني يجب حمايته من أطراف النزاع ويحظر احتجازه أو معاملته بقسوة أو الاعتداء عليه.
ندعو @ICRC للعمل على ضمان سلامة الزميل الصحفي معمر إبراهيم @MUAMMAR_SUD الذي ظهر محتجزا ويعامل بقسوة من قبل عناصر الدعم السريع وفقا للمقطع أدناه. pic.twitter.com/fw1WsD4j1S
— Mojahed Taha (@mojahedashw2k) October 26, 2025
تحديات هائلة ومخاطر أثناء إعداد التقارير
وبالنسبة للصحفيين مثل شمس الذين يعملون داخل البلاد، فإن التحديات هائلة، إذ لم يكن هناك كهرباء تقريبا، وفي بعض الأحيان، كانت الكهرباء تتوافر يوما أو يومين، ثم تنقطع عدة أشهر.
وفي بعض الأحيان، كانت الحكومة تقطع خدمة الإنترنت لأسباب أمنية، وكانت شمس تقضي يوما كاملا في محاولة إرسال مقاطع فيديو قصيرة، واستغرقت بعض القصص أكثر من أسبوع لإرسالها.
واضطرت الصحفية إلى مغادرة المدينة لإرسال تقاريرها، وسافرت مرة واحدة وقطعت مسافة 700 كيلومتر إلى القضارف، حيث كانت الكهرباء والإنترنت لا تزالان متاحتين.
إعلان
وتفاقمت المخاطر عند نقاط التفتيش على الطرق، وقالت شمس: "في إحدى النقاط رأيت صبيا يحمل قاذفة صواريخ (سلاح مضاد للدبابات يُطلق من على الكتف) وكان طوله مساويا طول السلاح نفسه"، وعندما حاول السائق تجاوز النقطة بسرعة، أطلق أحد الصبية النار على السيارة، وأضافت "كان الأمر مرعبا، ظننت أننا سنموت".
وكان على شمس أن تجد مصادرها بشكل شخصي، عند انقطاع خدمة الهاتف أو الإنترنت، وكان هذا يتطلب منها طرق الأبواب، والالتقاء بالمصادر في أماكن عملهم أو منازلهم.
طريق الأربعين يوما
وفي أغسطس/آب 2024، نشرت شمس تقريرا عمّا يسميه السودانيون درب الأربعين، أو "طريق الأربعين يوما"، وهو طريق صحراوي أصبح شريان الحياة الوحيد بين غرب السودان وشماله بعد أن سيطرت قوات الدعم السريع على الطرق السريعة المعبدة.
وكان من المفترض أن تستغرق رحلتها إلى المنزل على طول هذا الطريق يومين، لكنها استمرت قرابة أسبوع، إذ أغرقت الأمطار الغزيرة وديان الصحراء، مما تسبب في غرق قوافل الشاحنات في الوحل، ونام الركاب العالقون في العراء، محاطين بالثعابين والعقارب، والجوع يقرصهم مع نفاد الطعام والمياه.
وتتذكر شمس أنها كانت تمسك بهاتفها الخاص بالعمل، خائفة من أن يُكتشف أثناء التفتيش، وتقول: "كان علي إخفاؤه طوال الطريق"، وأحيانا تضطر لإخراجه بسرعة لالتقاط الصور.
وكانت تسافر وحدها، وهو ما كان يشكل خطرا كبيرا أيضا، إذ كانت قوات الدعم السريع تخطف النساء، لكن لدى شعور شمس بالخطر عند الكتابة أو التصوير، كانت تحفظ التفاصيل، وتخزن الأسماء والمشاهد في ذهنها حتى تصل إلى مكان آمن.
وللحفاظ على سلامة الصحفيين، تعتمد شبكة "عاين" على تقييمات المخاطر وكلمات السر، وصندوق صغير للطوارئ، والتحقق المستمر، ومع ذلك، أصبحت الرقابة الذاتية ضرورية في أماكن مثل دارفور، حيث كان إرسال تقرير صحفي يعني في كثير من الأحيان الدخول إلى مقهى إنترنت مليء بالمخبرين.
" frameborder="0">
التهديد خارج السودان أيضا
وحتى خارج السودان، لم تكن سلامة الصحفي السوداني إياد هشام مضمونة، أثناء وجوده في إحدى الدول التي تدعم قوات الدعم السريع، حيث كان يحقق في أمر مرتزقة كولومبيين يحاربون إلى جانب قوات الدعم السريع.
وقبل ساعات من موعد مقابلة مقررة مع أحد المصادر، انسحب مصدره فجأة بعد مكالمة هاتفية غامضة، وسرعان ما لاحظ هشام علامات المراقبة، بما فيها نقرات غريبة وصوت صدى في هاتفه، وتعطيل المعاملات المصرفية، واضطرابات مماثلة على هاتف زوجته.
وقال: "شعرت أن هناك أعينا تراقب كل ما أفعله"، وبعد أن تلقى تحذيرات من إمكانية اعتقاله، انتقل إلى نيروبي، وترك التحقيق دون أن يكتمل.
ويقول رودس إن شبكة "عاين" تحاول دعم مراسليها بتقديم المشورة والتواصل المنتظم بهم، لكنه أقر بأن الموارد محدودة، وفي بعض الأحيان، يثقل هذا الأمر كاهل المحررين، الذين ينتجون يوميا لقطات مصورة صادمة.
الصحافة مقاومة
ويؤكد الصحفي هشام قناعته بأن الصحافة نفسها هي شكل من أشكال المقاومة: "إذا توقفنا عن التغطية، فإننا نخيّب آمال شعبنا"، ويضيف "العالم لا يهتم بنا فعلا، والتوقف عن العمل سيجعل الأمر أسوأ، وسيكون لدينا متسع من الوقت لأخذ إجازة والتركيز على صحتنا العقلية، أما في الوقت الحالي، علينا أن نستمر".
وتواجه شبكة "عاين" استهدافا متواصلا على فيسبوك، المنصة السائدة في السودان، بهدف إزالة محتواها، إذ تقوم مجموعات مختلفة بإغراق ميتا بالبلاغات، للتأكد من إزالة إنتاجات الشبكة أو حجبها، وفق رودس.
وأشار رودس إلى أنه لم يُستهدف أي فرد من فريقهم مباشرة خلال الحرب، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى أنهم اضطروا إلى التراجع، ففي دارفور، على سبيل المثال، لم يعد المراسل الذي كان ينشر قصصا حصرية أسبوعيا ينشر سوى قصة واحدة شهريا، لأن النشر يتطلب الذهاب إلى مقاهي الإنترنت التي يراقبها مخبرون وجنود تابعون لقوات الدعم السريع.
تحديات مالية تهدد استمرار الشبكة
وكان البقاء المالي للشبكة محفوفا بالمخاطر، تماما كسلامة مراسليها، ازداد التحدي صعوبة بعد أن قطعت الوكالة الأميركية للتنمية الدولية "يو إس إيد" (USAID) دعمها فجأة، مما أدى إلى فقدان 75% من تمويلها.
إعلان
ويخصص الفريق حاليا قرابة 20% من وقته لإنتاج أفلام وثائقية وتحقيقات ولقطات للعملاء، بالتعاون مع صحيفة نيويورك تايمز ومركز مرونة المعلومات، ساعدت شبكة "عاين" في الكشف عن انتهاكات قوات الدعم السريع باستخدام أدلة بصرية مفتوحة المصدر، كما ساهمت الشبكة في مشاريع أفلام مستقلة، بما فيها فيلم "خرطوم".
" frameborder="0">
قصة يجب أن يعرفها العالم
ولطالما كان للصحافة في السودان ثمنها، وبالنسبة لمراسليْن مثل هشام وشمس، كان الثمن باهظا لدرجة أن كليهما اضطر إلى الانتقال، هشام استقر أخيرا في كينيا، وشمس انتقلت إلى الولايات المتحدة.
وكان النزوح صادما خاصة بالنسبة لشمس التي قالت: "أميركا أصعب من السودان في زمن الحرب من بعض النواحي، لكنني أبدأ من جديد، وسأحاول النجاح"، وحتى في المنفى، استمرت شبكة "عاين" في دعمها كلما استطاعت، إذ تنقل المصادر وتساعد في كتابة القصص من بعد.
وفي حين ساعدت الشراكات الدولية شبكة "عاين" في الوصول إلى جمهور أوسع، إلا أنها سلطت الضوء أيضا على الفجوة بين التغطية المحلية والأجنبية للحرب في السودان.
ويقول هشام إن كثيرا من التقارير الدولية تختزل الحرب في صراع بسيط على السلطة، متجاهلة الديناميات الإقليمية والخسائر البشرية، وبالنسبة له، الحرب ليست مجرد صراع بين جماعتين مسلحتين، بل كارثة مزقت المجتمعات، وشردت الملايين، وأعادت تشكيل النسيج الاجتماعي للبلاد.
وأشار إلى أن كثيرين من الصحفيين الدوليين اعتمدوا على الصحفيين السودانيين للحصول على السياق الصحيح للأحداث والتواصل بمصادر على الأرض، وقال: "يمكننا ربط الأطراف ونقل الأصوات الحقيقية للشعب السوداني".
ومع ذلك، عبّر الصحفي عن قلقه من غرق هذه الأصوات في ضجيج العالم الذي تحول انتباهه إلى أماكن أخرى، وقال: "السودان أصبح منسيا".

0 تعليق