لم تكن إيمان محمد المخطوبة إلى شاب أردني، تتخيل أن عمرها سينقسم إلى نصفين، ما قبل الحرب، وما بعدها، 28 عاما من الحياة اختزلت في 9 أشهر من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، فقط عشرة أشهر علمتها كيف يصبح الخوف شيئا يوميا، وكيف يمكن للقلب أن يواصل النبض رغم أنه محاصر من كل الجهات، كانت تقيم في شمال قطاع غزة، حيث كانت أصوات الانفجارات أقرب إليها من صوتها الداخلي، وحيث كان الليل لا يملك لونا سوى اللون البرتقالي المنبعث من نيران البيوت المشتعلة، في الأسبوع الأول وحده، فقدت جيرانها، كامل بيتها في منطقة وسط شرق قطاع غزة، وهدوءها القديم، لكن الأسوأ لم يكن قد بدأ بعد.
في إحدى الليالي حين كان القصف يقترب أكثر من حي الرمال وسط مدينة غزة، اضطرت إيمان مع عائلتها إلى النزوح، خرجوا يحملون ما استطاعوا من بقايا حياتهم، وما لم يستطيعوا حمله حملوه في قلوبهم، كانت الطرق مليئة بالناس، وجوه بلا ملامح، عيون تبحث عن نقطة نجاة واحدة في مساحة كلها موت، وفي الطريق حدث ما سيظل يرافقها كظل ثان لا يفارقها، بينما كانت تركض خلف والدتها سمعت طلقات رصاص من طائرة الأباتشي، لم تدرك أن الرصاص كان موجها نحوهم، إلا حين شعرت بحرارة تخترق الهواء بجوارها، ثم ارتجت الأرض من حولها، اصطدمت بالأرض من شدة الفزع، وتحت ظلال القناصة الإسرائيلية وجدت نفسها ملقاة على الأرض، تسمع صفير الرصاص فوق رأسها، وتشعر بأنفاسها تتباطأ خوفا لا تعبا.
صرخت أمها باسمها، لكن صوتها كان أبعد من المسافة، وحين ظنت أن نبضها الأخير سيحصى الآن، سحبها أحد الشباب نحو جدار مكسور، وغطاها بجسده، بقيت هناك دقائق طويلة، دقائق لم تستطع فيها أن تحدد، هل هي على قيد الحياة؟ أم أن الموت فقط لم ينتبه لها بعد؟ وبعد مرور الأيام، اكتشفت أن الحرب ليست مجرد صواريخ وقصف وأحزمة نارية، بل هي تفاصيل صغيرة تنحت الروح من الداخل، انتظار التكية للحصول على فتات طعام لساعات طويلة، طابور الحصول على مياه غير صالحة للاستخدام الآدمي.
عاشت إيمان في شمال غزة، تجربة أقل ما يقال عنها "قاسية"، صراع البقاء، أكلت من علف الحيوان ولم تخجل من ذكر ذلك أبدا، أصيبت بمغص كلوي لعدم شرب المياه لأسابيع، ولم تتذوق النوم من شدة قسوة الأحزمة النارية وهي عبارة عن 50 غارة إسرائيلية في مربع سكني كامل على الأقل.
بوابة النجاة..
بعد تسعة أشهر من المعاناة، حيث استوطن الموت كل زاوية، أرادت الأقدار أن تدفعها دفعا نحو لقاء خطيبها في أرض الأردن، لكن الواقع كان أضخم من أن تحويه العقول؛ فالاحتلال الإسرائيلي كان قد شق جسد القطاع إلى شطرين: شمال وجنوب، وكان معبر رفح "بوابة النجاة" يقبع في الجنوب البعيد.
لم يكن قرار النزوح من الشمال إلى الجنوب، عبورا بكل تلك الحواجز، مجرد اختيار، بل كان انتحارا تحفه احتمالات الموت والخسارات الصعبة، بعد أن تجمدت الدموع في قلبها، وصارت الدعوات هي رجاؤها الوحيد لإلهامها الصواب، قررت إيمان أن ترفع راية التسليم للقدر، كل الخيارات كانت مرة، لكن الانتظار كان أمرها.
في السادس والعشرين من نيسان 2024، اتخذت قرارها المزلزل: النزوح جنوبا، كي تتمكن من السفر إلى عتبة زوجها في الأردن، لم تكن تتخيل عظم الهول الذي ينتظرها في شارع الرشيد، شريان الحياة الوحيد المفتوح أمام النازحين غرب قطاع غزة.
انطلقت إيمان وحيدة، تسير على قدميها وسط تضاريس الطرق المدمرة بالقصف والأحزمة النارية، على يمينها، في الأفق البحري، زوارق حربية ترقب، وعلى شمالها، قصف المنازل المنهارة وأعمدة الدخان التي تخنق الصدر، وفوق رأسها، كانت طائرة "الأباتشي" تحوم، تطلق نيرانها بشكل دائري كأنها ترسم عليها دائرة حظر مميتة، لكنها لم تكترث، جمعت كل خوفها في قبضة قلبها، ومضت نحو طريق مجهول، حيث ينتظرها القناص الإسرائيلي وحواجز الاحتلال كقدر محتوم.
قناص الاحتلال
كانت تلك اللحظة هي الأقسى، حيث تسير قدمها متجردة من درع الرؤية، بينما عينا القناص تقتنصان كل خطوة، لم يكن الأمر مجرد مراقبة، بل نظرة حقد ضار ومفترس، اخترقت الرصاصة الأرض بين قدميها، جمدتها صدمة الخوف، فأوقفتها مناجاة صامتة للسماء، رصاصة ثانية أعادتها قسرا إلى الخلف، تجر معها ثقل التعب وخيبة أمل لقاء خطيبها، عادت محملة بدموع مرارة خنقتها أتربة القصف اللعينة.
لكن الأمل المصر يرفض الموت؛ عادت مرة أخرى تخطو نحو نصيبها، هذه المرة، لم تكن وحيدة، فقد وجدت عائلات احتمت بظلها وراحت ترافقهم، وصولا إلى الحاجز الإسرائيلي، حيث تجسد الخوف سيد الموقف، أمر الضابط الإسرائيلي برفع الأيدي والهوية الفلسطينية، لتتحول الساعتان اللاحقتان إلى وقفة إجبارية تحت شمس حارقة، بلا حراك أو همس، وفي المقابل، كان جنود الاحتلال يستفزون صمتهم بجرعات من البيبسي والمياه الباردة.
بعد تلك الساعتين الثقيلتين، استأنفت إيمان مسيرتها مع العائلات، حاجزا تلو الآخر، حتى لامست أطراف بر الأمان في منطقة النصيرات، التي تباعدت عنها شوكة الاحتلال، ومنها، انتقلت إلى مدينة رفح، كان الأمان يحف قلبها بفضل الخيط الذي لم ينقطع، وهو متابعة وزارة الخارجية الأردنية لها، اتصال يتبعه آخر.
في الصالة المصرية، كان الموفد الأردني في انتظارها، استقبلها بكلمات طمأنة بعد موت محقق، فغادرت إلى بلدها الشقيق، الأردن، الذي أصبح حضنا تحتمي فيه من شراسة الحرب.
لكن الوجع لم يكتمل بوصولها إلى عمان؛ فبعد أشهر قليلة، تلقت إيمان طعنة جديدة: خبر استشهاد شقيقتها الكبرى وطفلها، اكتشفت حينئذ أن الفقد ليس مجرد غياب، بل مرارة لا توصف، وأن لعنة بعد المسافات تلاحق الفلسطيني وتفاصيل وجوده أينما حل.

0 تعليق