في وطن يشبه في تكوينه الجيولوجي والحضاري "متحفا مفتوحا" ممتدا من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، تقف المملكة الأردنية الهاشمية شاهدة على عصور قديمة تركت بصماتها في كل حجر وواد.
هذا الثراء التاريخي العظيم لم يكن ليبقى صامدا في وجه أطماع "الباحثين عن الثراء السريع" لولا وجود ترسانة قانونية صارمة، تمثلت في قانون الآثار رقم 21 لسنة 1988 وتعديلاته.
إن قصة الآثار في الأردن ليست مجرد حكاية عن حجارة صماء، بل هي ملحمة صراع بين "الدولة" التي تسعى لحماية ذاكرة الأمة، وبين "العابثين" الذين يسعون لتحويل التاريخ إلى سلعة، مستندين إلى أوهام الدفائن والذهب.
وفي هذا التقرير الموسع، نغوص في عمق النصوص القانونية لنكشف كيف أغلق المشرع الأردني كل الأبواب في وجه المعتدين، فرضا سياجا من العقوبات الرادعة التي لا تعرف التهاون.
ما هو "الأثر"؟.. تعريف يحسم الجدل
قبل الخوض في غمار العقوبات، كان لزاما على القانون أن يضع حدا فاصلا يعرف من خلاله ما هو "الأثر" الذي يستوجب الحماية. فليس كل شيء قديم يعد أثرا بالمفهوم القانوني إلا ضمن معايير دقيقة.
وقد جاءت المادة الثانية من القانون لتضع النقاط على الحروف، معرفة الأثر بأنه "أي شيء منقول أو غير منقول أنشأه أو صنعه أو خطه أو نقشه أو بناه أو اكتشفه أو عدله إنسان قبل سنة 1750 ميلادية".
هذا التاريخ المفصلي 1750م لم يوضع عبثا، بل جاء ليغطي حقبا تاريخية طويلة تشمل المغاور، والمنحوتات، والمسكوكات، والفخاريات، والمخطوطات، وكل ما يدل على نشأة وتطور العلوم والفنون والديانات للحضارات السابقة.
ولم يقف المشرع عند هذا الحد، بل أدرك أن التاريخ لا يتوقف عند رقم معين، فمنح "الوزير" صلاحية مرنة لاعتبار أي شيء يعود تاريخه لما بعد سنة 1750م "أثرا" شريطة أن يصدر بذلك قرار ينشر في الجريدة الرسمية.
ولم يغفل القانون الجانب الطبيعي والبشري، حيث شمل التعريف "البقايا البشرية والحيوانية والنباتية" التي يعود تاريخها إلى ما قبل سنة 600 ميلادية، مما يضفي حماية شاملة حتى على البقايا العضوية التي تروي قصة الحياء القديمة في المنطقة.
كما ميز القانون بدقة بين نوعين من الآثار: "الآثار غير المنقولة"، وهي تلك الثابتة في الأرض أو باطنها، بما في ذلك ما يقع تحت المياه الإقليمية، و "الآثار المنقولة" التي يمكن تغيير مكانها دون أن يلحق بها تلف.
وهم "الذهب".. والجريمة التي لا تغتفر
في الكثير من المجالس، تدور أحاديث سرية حول "الرصد" و "الذهب العثماني" و "الروماني"، شائعات تدفع البعض إلى حمل معاولهم وحفر الأرض بحثا عن السراب.
هنا، يبرز القانون الأردني كحائط صد منيع، حيث جاءت المادة 14 لتكون قاطعة وحازمة في وجه هذه المعتقدات.
فقد نصت هذه المادة صراحة على أنه "على الرغم مما ورد في أي قانون آخر، يحظر على أي شخص طبيعي أو معنوي القيام بأية حفريات في المواقع الأثرية بحثا عن الدفائن الذهبية أو أية دفائن أخرى".
إن هذا النص القانوني يغلق الباب أمام أي ذريعة، ويجرم فعل الحفر بحد ذاته إذا كان الهدف هو البحث عن الكنوز.
ولتأكيد سيادة الدولة، حصر القانون "حق التنقيب" في جهة واحدة فقط، وهي "دائرة الآثار العامة". وللدائرة فقط -وبموافقة الوزير- أن تسمح للمؤسسات العلمية والبعثات الأثرية المختصة بالتنقيب وفق شروط علمية ورقابية صارمة.
وبخلاف ذلك، يحظر على أي شخص، مهما كانت صفته، التنقيب في أي مكان في المملكة، حتى لو كان هذا المكان ملكية خاصة له.
الملكية الحصرية للدولة.. لا حق لواضع اليد
يعتقد البعض خطأ أن امتلاك قطعة أرض يعني امتلاك ما في باطنها من آثار، لكن القانون الأردني نسف هذا المعتقد من جذوره. فوفقا للمادة الخامسة، "تنحصر ملكية الآثار غير المنقولة في الدولة وحدها".
وأكد المشرع على قدسية هذه الملكية بعدم جواز تملك أي جهة أخرى لهذه الآثار بأي وسيلة كانت، بل إنه "لا يقبل أي دفع بالتقادم لاكتساب ملكيتها". هذا يعني أن مرور الزمن لا يمنح المعتدي أي حق على الأثر.
وتجلت الصرامة في الفقرة د من نفس المادة، التي نصت بوضوح على أن "ملكية الأرض لا تكسب صاحبها حق تملك الآثار الموجودة على سطحها أو في باطنها".
وبالتالي، فإن وجود آثار في أرضك لا يخولك حق التنقيب عنها أو التصرف بها. بل إن الدولة احتفظت لنفسها بحق "استملاك أو شراء أي عقار" تقتضي مصلحة دائرة الآثار استملاكه لحماية المقدرات الوطنية.
عقوبات تكسر الظهر.. السجن مصير العابثين
لم يكتف القانون بالتجريم النظري، بل فرض عقوبات مادية وجسدية قاسية، جعلت من مغامرة البحث عن الدفائن رهانا خاسرا بكل المقاييس.
1. الجنايات الأثرية الكبرى المادة 26: لقد غلظ المشرع العقوبة في المادة 26 لتصل إلى "الحبس مدة لا تقل عن سنة ولا تزيد على ثلاث سنوات"، بالإضافة إلى "غرامة مالية لا تقل عن ثلاثة آلاف دينار"، مع مراعاة تناسبها مع قيمة الأثر.
وتشمل هذه العقوبة طائفة واسعة من الجرائم، أبرزها:
المتاجرة بالقطع المقلدة على أنها قطع أثرية أصلية، وهو باب آخر للاحتيال أغلقه القانون.
2. الجنح والمخالفات المادة 27: لم يتغاض القانون عن المخالفات الأقل جسامة، فقد فرضت المادة 27 عقوبة "الحبس من شهرين إلى سنتين"، أو "غرامة لا تقل عن خمسمائة دينار".
وتطال هذه العقوبة كل من يقوم بإلصاق الإعلانات على المعالم الأثرية، أو تقليد الآثار وتداولها دون ترخيص، أو تقديم معلومات كاذبة للحصول على رخص.
صدمة القانون.. لا أسباب مخففة!
لعل أخطر ما في هذا القانون، والذي يجهله الكثيرون، هو ما نصت عليه المادة 30، فقد جاءت هذه المادة لتقطع الطريق على أي محاولة للاسترحام القضائي في جرائم الآثار.
نصت المادة بوضوح صارم: "على الرغم مما ورد في أي قانون آخر، لا يؤخذ بالأسباب المخففة التقديرية لتنزيل العقوبة عن الحد الأدنى المقرر لأي مخالفة منصوص عليها في هذا القانون". هذا النص يعني أن القاضي ملزم بتطبيق الحد الأدنى للعقوبة سنة حبس و 3000 دينار في الجنايات كحد إجباري لا يمكن النزول تحته، مهما كانت الظروف الشخصية للجاني.
المصادرة وخراب البيوت
لا تتوقف يد العدالة عند سجن الجاني، بل تمتد لتصادر أدوات الجريمة، مما يكبد المعتدين خسائر مالية فادحة. فبموجب المادة 28، يتم "مصادرة أي آثار ارتكبت المخالفة من أجلها".
وليس هذا فحسب، بل تصادر "الأجهزة والأدوات والآليات" المستخدمة في الحفر والتنقيب لتصبح ملكا للدائرة. هذا يعني أن الجرافات الضخمة أو ألآت الكشف عن المعادن باهظة الثمن ستذهب أدراج الرياح.
وعلاوة على ذلك، يتحمل المخالف "نفقة إزالة أي إنشاءات أو أبنية أقيمت خلافا للقانون"، بما في ذلك تكاليف إصلاح أي ضرر لحق بالآثار.
وأعطى القانون للمدير العام الحق في طلب "الحجز التحفظي" على الآليات المستخدمة، بل وخول المحكمة فرض غرامة إضافية تتراوح بين 500-1000 دينار على مالك الآلية إذا ثبت علمه باستخدامها في الاعتداء.
التجارة المحرمة.. والرقابة الحديدية
ضرب القانون بيد من حديد على سوق الآثار السوداء. فقد "حظر بشكل قاطع الاتجار بالآثار في المملكة"، واعتبر جميع رخص الاتجار السابقة ملغاة، كما "منع نقل أو تصدير أو بيع الآثار المنقولة إلى خارج المملكة" إلا بموافقة خاصة جدا من مجلس الوزراء في حالات نادرة.
وحتى بالنسبة للأفراد الذين يقتنون الآثار، فرضت عليهم رقابة صارمة، إذ أوجب القانون عليهم "تقديم جدول بها للدائرة" يتضمن أعدادها وصورها ووصفها لتوثيقها، وللدائرة الحق في شراء هذه الآثار، أو طلبها للفحص والدراسة. كما يحظر إدخال أي أثر منقول إلى المملكة بقصد التصدير الترانزيت ما لم يثبت أن حيازته مشروعة.
حماية الحرم الأثري من الزحف العمراني
لم يغفل القانون الجانب التنظيمي والعمراني لحماية محيط المواقع الأثرية. حيث وضع ضوابط صارمة للبناء، فلا يجوز "الترخيص بإقامة أي إنشاءات أو أبنية إلا إذا كانت تبتعد عن أي أثر مسافة تتراوح بين 5 إلى 25 مترا"، وأجاز القانون للوزير زيادة هذه المسافة لغايات حماية الموقع أو توسعته أو ضمان عدم حجبه.
وفي قطاع الصناعة، كان المنع أشد، حيث "حظر القانون إقامة صناعات ثقيلة أو خطرة أو مقالع حجرية على مسافة تقل عن كيلومتر واحد من حرم المواقع الأثرية"، كما اشترط موافقة الدائرة المسبقة قبل طرح عطاءات المشاريع العامة والخاصة لضمان عدم المساس بالتاريخ.
المواطن.. عين الوطن وحارس التاريخ
يوازن القانون الأردني بين مبدأي العقاب والثواب؛ فكما يتوعد العابثين بأشد العقوبات، فإنه يكافئ الملتزمين والمتعاونين.
فقد أوجبت المادة 15 على كل من يكتشف أثرا أو يعثر عليه مصادفة أن "يبلغ المدير أو أقرب مركز أمن خلال عشرة أيام".
وفي المقابل، وتشجيعا للأمانة والحس الوطني، نصت المادة 32 على "منح مكافأة مالية مناسبة لأي شخص يساعد على مصادرة أي أثر، أو يقدم معلومات تؤدي إلى اكتشاف أي مخالفة لأحكام القانون".
وتدفع هذه المكافآت بقرارات تتدرج من المدير إلى الوزير وحتى رئيس الوزراء حسب قيمة المكافأة، مما يجعل من المواطن شريكا حقيقيا في حماية مقدرات بلاده.
متحف الأردن.. الذاكرة المؤسسية
لتكليل جهود الحماية بالعرض والتوثيق، أفرد القانون مساحة خاصة لإنشاء "متحف الأردن"، مانحا إياه "شخصية اعتبارية واستقلالا ماليا وإداريا". وحدد القانون أهداف المتحف ليكون مركزا تراثيا شموليا، ومركزا وطنيا للمقتنيات، وأداة تعليمية وسياحية متطورة.
رسالة الدولة.. التاريخ خط أحمر
إن قراءة متفحصة لنصوص قانون الآثار الأردني تظهر بوضوح أن الدولة تتعامل مع ملف الآثار كمسألة سيادة وطنية وأمن ثقافي. فمن خلال تجريم التنقيب العشوائي، وحصر الملكية بالدولة، وفرض عقوبات لا تقبل التخفيف، يرسل القانون رسالة واضحة: تاريخ الأردن ليس سلعة للبيع، ولا ساحة للعبث، بل هو إرث مصان بقوة القانون وهيبة الدولة.
وتناط بدائرة الآثار العامة مسؤوليات جسيمة، بدءا من تنفيذ السياسة الأثرية، ومرورا بإدارة المواقع وحمايتها وترميمها، وصولا إلى نشر الثقافة الأثرية. ويبقى الوعي الشعبي والالتزام بأحكام هذا القانون هو خط الدفاع الأول عن كنوز المملكة التي لا تقدر بثمن.

0 تعليق