Published On 8/12/20258/12/2025
|آخر تحديث: 11:33 (توقيت مكة)آخر تحديث: 11:33 (توقيت مكة)
تبدو سوريا، في الذكرى الأولى للتحرير، وكأنها تقف على بوابة زمن جديد، زمن لا تُقاس ملامحه بما جرى على خطوط الجبهات فقط، بل بما انكشف بعدها من حقيقة أشد عمقا وأطول أثرا.
فالتحرير على أهميته الرمزية والسياسية، لم يكن نهاية المعركة؛ بل لحظة مواجهة مباشرة مع إرث تجاوز 50 عاما من التدمير البطيء والتهشيم المستمر لبنية الدولة والمجتمع، إرث صنعه نظام البعث في عقود حكم فيها بعقلية أمنية وأدوات قمعية، كانت تراكم عوامل الانهيار المؤجل، بما طوقت به البلاد من شبكات الفساد، فكان الانفجار الثوري أمرا حتميا، وكان استحقاق النصر أمرا موعودا، وكان على سوريا أن تستعد لتغيير كبير يبدأ من ديسمبر/كانون الأول 2024.
كان الخلاص مكلفا والإرث ثقيلا
خلال عام 2025، وجد السوريون أنفسهم أمام مهمة تاريخية تتجاوز حدود "الإصلاح" إلى منطق "إزالة الركام"، ثم التخطيط والبدء بعملية "البناء".
الإصلاح قد يكفي حين تكون المؤسسات قائمة وتحتاج إلى حل المشكلات أو تعزيز الإمكانيات، أما حين تكون البنية نفسها منهارة أو مخترقة أو متآكلة، فإن المهمة تصبح إعادة تأسيس قطاعات بأكملها.
في سوريا كان كل شيء يحتاج إلى الإصلاح، ثم جاءت الثورة عام 2011 على نظام فتح النار على كل شيء، وبدل أن يصلح الخلل دمر كل ما تبقى: الإدارة والقضاء والاقتصاد والأمن والخدمات وحتى علاقة المجتمع مع السلطة، وعلاقة المجتمع مع نفسه.
كان الجميع يراقب تدمير النظام البائد كل شيء في البلاد، لكن بعد زوال نظام الأسد أظهر التحرير حجم الكارثة على حقيقته دون مواربة، الأمر الذي لم يقطع الأمل، بل خلق إيمانا عند السوريين بأن الدولة الجديدة التي يجب أن يبنوها على أنقاض الدولة الموجودة يجب ألا تكون جدارا خارجيا يحمي السلطة.
لقد أعاد العام الأول بعد التحرير تعريف موقع سوريا في العالم، وفتح أمامها مساحات جديدة للتفاعل الدبلوماسي، وسمح بعودة المشهد السوري إلى المحافل الدولية كقضية دولة تريد بناء نفسها، لا كملف يتقاذفه الآخرون
بين ضرورات الداخل والاستحقاقات الخارجية
كان عام البدء بالبناء (2025) متعبا رغم نشوة النصر وفرحة الخلاص؛ بما حمله من متطلبات الداخل الكثيرة، التي يجب أن تنتظر أولويات ضرورات إعادة التموضع الخارجي.
إعلان
فالمسار الداخلي بكل ما يتطلبه من "إزالة الأنقاض" ثم "تنظيف" المؤسسات الحكومية وإعادة بنائها بشكل صحيح وصولا إلى إعادة بناء الحوامل الاجتماعية والسلم الأهلي.. كل ذلك لم يكن أقل أهمية عن المسار الخارجي الذي يفك العزلة عن سوريا ويعيد تعريف علاقاتها.
لم تكن الحكومة السورية قادرة على حل أزمات الداخل دون تحقيق مسار حثيث وكبير على مستوى الانفتاح الدبلوماسي الخارجي المتبادل مع الحلفاء الجدد: الغرب وحلفائه في المنطقة.
وكان الشعب السوري يتفهم ما ذهبت إليه الحكومة من أن الحلول الأسرع لمشكلات الداخل لا بد أن تأتي من حل أزمات الخارج أولا، ولن يتحقق الإنجاز الداخلي ما لم يتحرك مع الإنجاز الداخلي، بذات الأولوية والجدية، مع جدلية أيهما سيكون سببا للآخر، فالداخل يحتاج إلى الاستقرار والدعم والاستثمارات، والخارج يحتاج إلى دولة مستقرة قادرة على صياغة سياستها الخارجية بعيدا عن التبعية والانغلاق والعزلة التي سادت لعقود.
الانتصار بتوقف الانهيار
يمكن القول: إن العام الأول بعد التحرير كشف عن مفارقة لافتة، فالكثير من التحولات الإيجابية في سوريا لم تكن نتيجة مبادرات جديدة؛ بقدر ما كانت ثمرة توقف ممارسات قديمة لطالما أرهقت الدولة والمجتمع.
حتى وإن لم يكن كافيا، لكن سوريا بعد زوال النظام البائد لمست الفرق الكبير، بداية من رفع حواجز الرعب التي كانت تقطع أوصال المدن والبلدات، وإنهاء امتيازات المجموعات الأمنية والعسكرية التي اعتادت تحويل الطرقات والمعابر إلى نقاط جباية وابتزاز.
الفرق الأكبر سيكون مع نتائج التحول العميق الكفيل بعودة الحركة الطبيعية للتجارة، وخفض تكاليف النقل، وفتح المجال أمام دورة اقتصادية كانت مقيدة بالقوة.
بدا المشهد خلال عام من التحرير وكأن البلاد تتنفس للمرة الأولى بعد زوال ما كان يخنقها، وكأن جزءا كبيرا من الإصلاح تحقق، لا بما أضيف بل بما أزيل.
التموضع الصحيح طريق البناء
كان المشهد الخارجي يتحرك بوضوح لافت، فخلال عام واحد فقط استعادت سوريا موقعا كانت قد فقدته منذ السنوات الأولى للاستقلال.
عادت سوريا إلى الخريطة الدولية، ليس بوصفها ملفا أمنيا أو عبئا إقليميا؛ بل لأنها دولة تسعى إلى بناء علاقات إيجابية مع القوى الإقليمية والدولية الساعية للاستثمار باستقرار شرق المتوسط.
التموضع السياسي الجديد لسوريا ليس تفصيلا سياسيا، بل هو جزء من تغيير شكل المنطقة انطلاقا من إعادة تموضع تاريخي نجح في سوريا، وهذا التغيير سيترك أثرا ضروريا وكبيرا على مستوى المنطقة ودورها في التوازنات العالمية، كما سيترك أثره الكبير داخليا في سوريا التي لم تعد محصورة داخل معسكر الدول المنبوذة، ولم تعد محرومة من أي هامش حركة مستقل، ولم تعد مكبلة بتحالفات ضيقة أضعفت موقعها وضيقت خياراتها.
عام على الطريق الصحيح
لقد أعاد العام الأول بعد التحرير تعريف موقع سوريا في العالم، وفتح أمامها مساحات جديدة للتفاعل الدبلوماسي، وسمح بعودة المشهد السوري إلى المحافل الدولية كقضية دولة تريد بناء نفسها، لا كملف يتقاذفه الآخرون.
وفي الداخل، أعاد هذا التحول قدرا من الثقة بأن البلاد قادرة على صياغة دور جديد لا يقوم على رد الفعل، بل على المبادرة واستعادة القرار الوطني.
إعلان
في المحصلة، تبدو سوريا اليوم على عتبة مرحلة لا تشبه ما سبقها، مرحلة يتلاقى فيها إرث نصف قرن من التدمير البنيوي مع فرصة سياسية نادرة أتاحها التحرير، وبينهما تقف البلاد أمام استحقاقات إعادة تعريف الدولة لنفسها ولسلطتها، وإعادة بناء مؤسساتها، وإعادة رسم عقد اجتماعي بينها وبين المجتمع، لتكون دولة طبيعية في عالم مضطرب.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

0 تعليق