من الركام إلى المقابر الجماعية.. رحلة مجهولي الهوية في غزة - الأول نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

انقر هنا للمشاركة على وسائل التواصل الاجتماعي

share2

تحت أطنان الركام الصامت، تُدفن قصص آلاف الفلسطينيين الذين حوّلتهم الحرب إلى مجرد أرقام في خانة المجهول. هنا، في قطاع غزة، حيث الدمار يمتد على مد البصر، تتحول المباني المنهارة إلى قبور جماعية، والذكريات إلى صور باهتة تُقلّب بين أيدٍ مرتجفة، وأسماء الأحبة إلى همسات تضيع وسط صدى الخراب.

في وسط هذا المشهد الكارثي، يقف مراسل الجزيرة غازي العلول ليروي قصة 9 آلاف و500 مفقود، جرح نازف لا يندمل، وملف مفتوح يؤرق ذويهم الذين يتوقون لمعرفة مصير أبنائهم، فعلى الرغم من انتهاء الحرب الإسرائيلية على القطاع، إلا أن مصير معظم هؤلاء ما زال لغزا محيّرا، ومأساة إنسانية تتجدد كل يوم.

بخطوات ثقيلة محملة بالحزن، يسير فادي عساف فوق أكوام الحجارة والحديد الملتوية، متجها نحو أقرب نقطة يُسمح له بالوصول إليها عند حدود "المنطقة الصفراء" التي يسيطر عليها الجيش الإسرائيلي شمال القطاع.

من هناك وعلى بعد مئات الأمتار من منزله المدمر، يجلس فادي فوق الركام ويخرج صورا فوتوغرافية قديمة لعائلته، يقلبها بين يديه بحسرة، وكأنه يحاول استعادة ملامح بدأت تتلاشى من ذاكرته.

"نفسي أوصل لكم.. نفسي أطلعكم"، يهمس فادي لنفسه وهو ينظر للأفق. فقد فادي 54 فردا من عائلته في لحظة واحدة، دُفنوا جميعا تحت ركام منزلهم الذي قصفته قنابل من بين الأضخم والأشد فتكا في العالم.

حلم فادي الآن بسيط لكنه بعيد المنال: أن يصل إلى منزله ويقف فوق ركامه، ويتحدث إلى أطفاله وأبيه وأمه وأخته وزوج أخته وابن أخته والعمة والخال والخالة، فهم جيمعا يرقدون تحت الرفات، وهو عاجز عن الوصول إليهم.

مأساة متكررة

المأساة نفسها بتفاصيل مختلفة يعيشها المسن شريف العسلي الذي يجلس على كرسيه المتحرك وسط الركام في حي الصحابة بمدينة غزة، فقد نجا شريف بمفرده وفقد جزءا من جسده، في حين بقي تحت الركام أكثر من 50 فردا من عائلته.

إعلان

تفاصيل اللحظات الأخيرة قبل القصف لا تغادر مخيلته، حين اقترح على ابنه توزيع العائلة بين الطوابق لتخفيف الزحام، فأجابه ابنه بكلمات مؤلمة: "يابا ما أنت شايف، إن شاء الله كلنا بنموت وبنرتاح وبنروح عالجنة".

آلمته الكلمات، فعاتبه قائلا: "يابا ليش بتدعي هيك؟ قول يا رب الله يحفظنا"، بكى الابن واعتذر قائلا إنه مضغوط ثم رحل، ولاحقا، عندما فتح شريف صفحة فيسبوك ابنه عماد، وجد منشورا مؤثرا كتبه الابن بعد تلك المحادثة: "سامحني يا تاج راسي، أنا مضغوط وأنا ما كنتش بوعيي، وسامحني ع اللي بدر مني تو بس انحكى إلك".

كانت تلك رسالة الوداع الأخيرة قبل أن يصبح عماد وإخوته الثلاثة، الذين كان لكل منهم 3 أو 4 أطفال، جميعا تحت الردم.

ملف المفقودين لا يقتصر على منطقة واحدة، بل يشمل كامل القطاع من شماله إلى جنوبه، يقول المركز الفلسطيني للمفقودين والمغيبين قسرا إن محافظة غزة تحتل النسبة الأعلى بـ32.22%، تليها شمال غزة بـ20.76%، في حين لم يتم تحديد الموقع الجغرافي لـ16.78% من الحالات بسبب الظروف الميدانية والنزوح الدائم.

وتشير الإحصائيات إلى أن 77% من منازل القطاع دُمرت أو تضررت، أي ما يعادل 436 ألف منزل، خلفت وراءها 50 مليون طن من الركام. رفع هذا الركام لاستخراج الرفات قد يتطلب ما بين 15 و20 عاما، وفق تقديرات الأمم المتحدة.

واقع معقد

في هذا الواقع المعقد، يحاول رجال الدفاع المدني القيام بمهامهم بإمكانيات شحيحة، حيث رافقهم فريق الجزيرة في إحدى المهام داخل شاحنة قديمة متهالكة إلى موقع تنقيب جديد، فقد دمّر الاحتلال 56 مركبة إطفاء وإسعاف وإنقاذ، و13 مركزا ومقرا تابعا للدفاع المدني، ما جعل مهمة الوصول إلى جثامين المفقودين صعبة للغاية.

حاولت الفرق في تلك المهمة انتشال جثامين عائلة النواصرة التي استُهدفت في 24 ديسمبر/كانون الأول 2023 في وسط القطاع، لكن المحاولة لم تكلل بالنجاح، يقول ضابط الدفاع المدني رامي العايدي: "منذ بداية الحرب ونحن نناشد جميع المؤسسات الدولية والحقوقية توفير المعدات والآليات الثقيلة حتى نتمكن من إخراج جميع ما يتم استهدافه".

وتزداد المأساة قسوة داخل غرف "الأدلة الجنائية"، حيث تحول التعرف على الأحباب إلى عملية بصرية بدائية وموجعة عبر شاشات تعرض صورا لملابس ممزقة أو مقتنيات شخصية، وأمهات يصرخن بحثا عن أي دليل.

تقول إحداهن بقلب محترق: "بديش ملامحه.. ع القليلة أعرف شبشبه، أواعيه.. نفسي أدفنه"، وفي ظل غياب فحوصات الحمض النووي (DNA)، يصبح التعرف على الابن من خلال "دم ناشف" أو قطعة قماش أقصى أماني الأم الثكلى.

محمود عاشور، المتحدث باسم الأدلة الجنائية، يشرح الوضع: "نحن الآن نعاني من عجز كامل في المعدات والإمكانات الفنية التي تساعدنا في التعرف على هويات جثامين هؤلاء الشهداء، وبالتالي نحن نستخدم الآن فقط آلية التصوير الجنائي".

تنتهي هذه الرحلة المروعة في مقبرة جماعية بدير البلح، حيث تُوارى الجثث مجهولة الهوية الثرى، وهناك، لا توجد شواهد رخامية تحمل الأسماء، بل طوب أسمنتي كُتبت عليه أرقام صماء وتواريخ.

إعلان

تلك الأرقام هي كل ما تبقى من حياة بشر كانوا يملؤون الدنيا ضجيجا وحياة، وكما اختتم العلول تقريره، فإن شواهد قبورهم باتت من ركام منازلهم، ليبقى ملف المفقودين مفتوحا، شاهدا على حرب حولت البشر إلى أرقام، والمدن إلى مقابر.

0 تعليق