يقول الكاتب والمثقف الليبي المعروف إبراهيم الكوني: إن الصحراء في الواقع معلم حكيم، وإلا لما كانت الوصي على أنبل ما في الوجود (النبوة)، وأضاف "الأفكار والرسائل كلها خرجت من الصحاري، ومن رغب في التقرب من الرب لا يملك إلا أن يستجير بالصحراء".
الصحراء سخية جدا رغم أنها تبدو عدما، لكنها لا تقتل مريديها ومن استجار بها
الطوارق.. شعب الصحراء الأزرق بين جذور التاريخ وتحديات الحاضر
يعيش الطوارق المعروفون بـ"الشعب الأزرق" بسبب لباسهم التقليدي، في قلب الصحراء الكبرى الممتدة من موريتانيا غربا إلى تشاد شرقا، مرورا بالجزائر وليبيا ومالي والنيجر، مع وجود محدود في بوركينا فاسو. يقدَّر عددهم بنحو 3.5 ملايين نسمة، يتحدثون لغة "تماشق" الأمازيغية بحروف "تيفيناغ" ويعتنقون الإسلام المالكي بطابع صوفي راسخ.
للقبائل جذور تاريخية ضاربة في عمق الماضي، حيث تختلف الروايات حول أصولهم، بين من ينسبهم لقبائل حمير اليمنية أو قبائل الأمازيغ في شمال أفريقيا، وحتى في تفسير اسمهم ظهرت آراء متباينة تربطه بالقائد طارق بن زياد أو بمنطقة وادي تاركة بليبيا أو بكلمة "تماشق" الأمازيغية التي تعني "الرجال الأحرار".

اعتمد الطوارق لقرون على الرعي والتجارة عبر الصحراء، قبل أن يخضعوا للاستعمار الفرنسي في مطلع القرن الـ20، ثم تقسمت أراضيهم بين دول عدة بعد الاستقلال، مما جعلهم يواجهون التهميش والاضطهاد، لتندلع منذ ستينيات القرن الماضي تمردات متكررة خاصة في مالي والنيجر، كان أبرزها تأسيس "الحركة الوطنية لتحرير أزواد" عام 2010.
موسيقى الطوارق.. من رمال الصحراء إلى مسارح العالم
ولدت موسيقى الطوارق أو "إيسوّاه" في قلب الصحراء الكبرى لتكون ذاكرة شعب ومرآة هويته. اعتمدت لعقود على آلات تقليدية بسيطة مثل "الإمزاد" الوترية وإيقاعات الطبول، حيث لعبت النساء دورا محوريا في الأداء والغناء، لتروي الألحان قصص البطولات والحياة البدوية والصراعات التي عاشها الطوارق.
إعلان
في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وخلال سنوات المنفى في مخيمات اللاجئين، ظهر جيل جديد دمج الإيقاعات التقليدية مع الغيتار الكهربائي، فانبثق ما عُرف لاحقا بـ"بلوز الصحراء". فرقة "تيناريوين" قادت هذه الموجة، حاملة هوية الطوارق وقضاياهم إلى مسارح أوروبا وأميركا.
تغني فرق الطوارق بلغة "تماشق"، مما ساعد على حفظها من الاندثار أمام العولمة، في حين تحمل كلمات الأغاني رسائل عن الحرية والحنين والانتماء، لتصبح أداة مقاومة ثقافية وسياسية.
اليوم، تجاوزت موسيقى الطوارق حدود الصحراء لتتحول إلى جسر ثقافي عالمي يربط العالم بروح الصحراء الكبرى ويجعل من إيقاعاتها رمزا للحرية والهوية.

يقول الرحالة ابن بطوطة في رحلته عبر الصحراء الكبرى واصفا حياة الطوارق وعاداتهم "هم قبيلة من البربر (الأمازيغ) لا تسير القوافل إلا في خفارتهم (حمايتهم)، والمرأة عندهم في ذلك أعظم شأنا من الرجل. وهم رحالة لا يقيمون، وبيوتهم غريبة الشكل، ونساؤهم أتم النساء جمالا، وأبدعهن صورا مع البياض الناصع والسمرة".
موسيقى الطوارق تراث موسيقي أنثوي
تعتمد الأنماط الموسيقية التقليدية لقبائل الطوارق على التكرار الإيقاعي والنغمات البسيطة التي تحاكي إيقاع السير في الصحراء، وأغنياتهم تعتمد كثيرا على الأشعار المنظومة بلغة "تماشق"، لغة الطوارق المحلية وموسيقاهم ليست مجرد فن للترفيه، بل أيضا هي وسيلة للتعبير عن الهوية الثقافية والروحية وتُعبّر عن علاقة الطوارق بالصحراء كفضاء حرية وروحانية، وتتناول موضوعات الهوية والحرية والرحيل والصحراء والحب والمقاومة، فموسيقاهم في غرب أفريقيا تُعتبر من أبرز الأشكال الموسيقية الصحراوية.
حيث يسود طابع الأداء الجماعي في الاحتفالات ومناسبات الزواج ومختلف أشكال النشاط الاجتماعي الأخرى. أما الآلات الموسيقية المستخدمة في مجملها آلات وترية، على رأسها آلة "الإمزاد" وهي آلة موسيقية تقليدية محدوْدِبة الشكل تعزفها النساء ومحرمة على الرجال.
و"الإمزاد" آلة يمجدها رجال قبيلة الطوارق، ويكون استعمالها مشتركا بين المرأة والرجل، فتعزف المرأة وينشد الرجل الأهازيج الزجلية التي تحكي عن حياة الطوارق إلى جانب التغني بقصائد شعرية، ويستعمل فيها إلى جانب الإمزاد الدف والتصفيق. أيضا هناك آلة "التندي" وهو طبل على شكل ساعة زجاجية برأسين جلديين متصلين بأوتار، وظيفته الأساسية هي تقليد الكلام والنغمات البشرية.
في مجتمع الطوارق الأمومي، تلعب المرأة دورا محوريا في حفظ التقاليد وتعليم الأبناء، وتمتلك الحق في اختيار الزوج وحتى تطليق نفسها، في حين ينتقل الإرث المادي عبر النساء. هذا النظام الفريد انعكس أيضا على الموسيقى، إذ ظلت الآلات التقليدية مثل التندي -الطبل المصنوع من جلد الماعز- والإمزاد، الكمان ذي الوتر الواحد، في يد النساء لعقود، حيث ارتبطت أغانيهن بالحياة اليومية والحب والحروب.
مع دخول الغيتار الصوتي ثم الكهربائي في سبعينيات القرن الماضي، انتقل جزء من الإرث الموسيقي إلى الرجال، لكنه فتح الباب أيضا لتجارب نسائية جريئة مثل فرقة "بنات إيليغاداد" (Les Filles de Illighadad) التي مزجت بين الأصالة والحداثة وقدمت عروضا في المهرجانات الدولية الكبرى، لتكسر الصورة النمطية عن موسيقى الطوارق كموسيقى محلية بحتة.
إعلان
" frameborder="0">
الطوارق بين أزمات الجفاف وثقافة المقاومة والموسيقى
شهدت سبعينيات القرن الماضي تحوّلا جذريا في حياة الطوارق، إذ أجبرهم جفاف سنة 1973 على النزوح من الصحراء إلى المدن، حيث اصطدموا بالفقر والبطالة وغياب التعليم، لتنشأ فئة شبابية عُرفت باسم "الإيشومار"، اتسمت بالتمرد والفخر بالهوية الثقافية.
خلال تلك الفترة، تلقى بعض الشباب تدريبا عسكريا في معسكرات العقيد الليبي معمر القذافي، مما ساهم في نشوء حركات تمرد متكررة ضد حكومات مالي والنيجر، بالتوازي مع بروز ثقافة موسيقية جديدة حملت هموم الطوارق وقضاياهم إلى العالم.
من رحم هذه الظروف وُلدت موسيقى "تيشومارين"، مزيج فريد من البلوز والروك والموسيقى التقليدية للطوارق، تعتمد على الغيتار الكهربائي ونغمات متكررة تتحدث عن الحرية ومصاعب الحياة. روّاد هذا اللون، مثل فرقة "تيناريوين"، انطلقوا من معسكرات اللاجئين بأدوات بدائية وأشرطة كاسيت، قبل أن يصبحوا نجوما عالميين ويتجولوا بين مهرجانات أوروبا وأمريكا.
في المقابل، ظل شمال مالي مسرحا لصراعات متجددة، أبرزها إعلان "الحركة الوطنية لتحرير أزواد" استقلال الإقليم عام 2012، قبل أن تتدخل حركات مسلحة أخرى، منها "الحركة العربية لتحرير أزواد"، لتزيد المشهد تعقيدا.
وهكذا، ارتبط تاريخ الطوارق الحديث بدوامة من الأزمات البيئية والسياسية، في حين بقيت موسيقاهم صوتا للحرية ومقاومة النسيان.
" frameborder="0">
موسيقى الطوارق.. من الصحراء إلى العالم صوت للمقاومة والحرية
لم يعد الطوارق مجرد شعب منسي في تخوم الصحراء الكبرى، بل أصبحوا رمزا لهوية مقهورة وجدت في الموسيقى لغة عالمية للمقاومة. فقد قادتهم عقود التهميش السياسي والاجتماعي، إلى جانب كوارث بيئية مثل جفاف 1973، إلى البحث عن وسائل جديدة للتعبير عن قضيتهم بعد فشل السلاح في تحقيق الاعتراف.
من قلب هذه المعاناة وُلد جيل "الإيشومار" الذي جمع بين التمرد والبحث عن لغة تُوصل صوتهم إلى العالم. ومع فرق موسيقية مثل "تيناريوين" و"إيمرهان"، تحولت موسيقى الطوارق، المستندة إلى شعر التماشق وإيقاعات الإمزاد والتندي، إلى ما يُعرف بـ"بلوز الصحراء"، قاتل أعضاء هذه الفرقة في الحرب الأهلية في مالي خلال التسعينيات، وأصبح صوت الغيتار الطوارقي مرادفا للحرية والهوية.
ورغم ترشيح فرقة "تيناريوين" لجائزة غرامي عام 2021، ما تزال موسيقى الطوارق أقل شهرة عالميا مما تستحق، حتى مع نجاحها في كسر حدود الجغرافيا والسياسة، وتحويل قضايا التهميش وغياب التنمية إلى خطاب فني يصل إلى وجدان المستمعين في القارات الخمس.

تُعالج أغاني الطوارق اليوم قضايا سياسية واجتماعية، من الحروب والصراعات إلى المطالب بالحرية والمساواة، في ما يشبه "التمرد الموسيقي" الذي بدأ منذ ثورات الاستقلال في السبعينيات. فرق مثل تيناريوين وإيمرهان، وفنانون منفردون مثل مدو مختار وبومبينو، حوّلوا "بلوز الصحراء" إلى حركة موسيقية عالمية تحمل هوية الطوارق وقضاياهم إلى مسارح أوروبا وأميركا.
اليوم، يبقى التحدي في أن تتحول هذه الموسيقى من مجرد احتفاء عالمي بالأنغام الصحراوية، إلى جسر حقيقي يدفع الحكومات والمجتمع الدولي للاعتراف بحقوق الطوارق وإدماجهم في أوطانهم ونيل حقوق المواطنة. وهكذا، باتت موسيقى الطوارق رمزا للمقاومة الثقافية والانفتاح العالمي، حيث تتقاطع فيها الأصالة البدوية مع الإبداع المعاصر، لتصنع جسرا يربط الصحراء بالعالم.
0 تعليق