قمة الدوحة فرصة للجم إسرائيل - الأول نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

باستهدافها وفد حماس التفاوضي على الأراضي القطرية لم تسجل إسرائيل فقط انتهاكا لسيادة قطر والقوانين الدولية وأعراف الحرب، ولكنها وضعت المنطقة برمتها أمام منعطف تاريخي دقيق. فإما أن يتحول هذا العدوان السافر إلى فرصة لوقف الإبادة في غزة والعدوان في المنطقة، وإما أن يتشجع نتنياهو وحكومته لمزيد من التغول على المنطقة.

لا حدود للعدوان

بعد امتصاص الصدمة الكبيرة في عملية "طوفان الأقصى"، بنت "إسرائيل" سريعا منظومة أمنية وإستراتيجية جديدة في فلسطين والمنطقة، وردَت على لسان أكثر من مسؤول فيها، ثم تبلورت في سياساتها العدوانية.

فقد رأت أنها باتت أمام خطر وجودي بعد تداعي منظومتها الأمنية السابقة القائمة على مبدأ الردع، ووجدت أمامها "فرصة تاريخية" قد لا تتكرر لحسم القضية الفلسطينية، ثم الصراع مع كامل الأعداء والخصوم الحاليين والمستقبليين والمحتملين، منتهجة مبدأ الانتقام بوحشية ودموية من جهة، وكيّ الوعي لتجاوز لحظة الطوفان من جهة ثانية.

منذ الأيام الأولى للعدوان حضر مبدأ اغتيال قيادات حماس العسكرية والسياسية والحكومية ركنا رئيسا في حرب إسرائيل. وإذا ما استطاعت اغتيال معظم قيادات الصف الأول السياسية والعسكرية في غزة، فإن قيادات حماس خارج فلسطين شكلت تحديا نظرا لاحتمالات الفشل العملياتي من جهة، والكلفة السياسية من جهة أخرى.

أعلنت إسرائيل وضع كامل قيادة حماس في الخارج على قوائم الاغتيال. ثم تدرجت في التنفيذ، حيث اغتالت نائب رئيس مكتبها السياسي صالح العاروري في بيروت، ثم رئيسه إسماعيل هنية في طهران.

اغتالت كذلك قيادة الصف العسكري والسياسي الأول في حزب الله وعلى رأسهم أمينه العام السيد حسن نصر الله، كما استهدفت عددا كبيرا من القيادات العسكرية والسياسية الإيرانية خلال الحرب معها، واغتالت كذلك رئيس وزراء حكومة صنعاء أحمد غالب الرهوي، مع عدد من وزرائه.

إعلان

ورغم إيقان الجميع بأن إسرائيل لن تفوّت أي فرصة لاستكمال "المهمة"، فإن وجود معظمهم في كل من قطر وتركيا شكل تحديا كبيرا، بالنظر للكلفة السياسية؛ بسبب علاقات الدولتين مع الولايات المتحدة، وغيرها من العوامل، ولذلك كان المتوقع استغلال ثغرات أمنية لعمليات اغتيال "هادئ" دون تبنٍّ مباشر. بيد أن نتنياهو وقياداته العسكرية والأمنية كان لهم توجّه آخر.

كانت قطر، نظريا ونسبيا، أكثر الأماكن أمنا وحصانة أمام أي عدوان. فهي ليست في اشتباك مباشر مع إسرائيل، وإن حرضت عليها الأخيرة مرارا، ولا هي دولة حدودية مع فلسطين المحتلة، كما أنها ضمن المظلة الأميركية في الخليج العربي، وتتمتع بعلاقات جيدة مع واشنطن، فضلا عن أنها وسيط رئيس في مفاوضات وقف إطلاق النار.

ضربت إسرائيل بكل ما سبق عرض الحائط، واستهدفت وفد التفاوض الذي كان يناقش مقترحا أميركيا لوقف إطلاق النار، ثم أعلنت بكل تبجح مسؤوليتها عن العملية قبل حتى أن تتضح نتائجها، على عكس تجنبها تبني اغتيال العاروري وهنية رغم أنهما اغتيلا على "أراضٍ معادية".

بالمنطق البسيط وكذلك بالعقل الإستراتيجي، فإنك حين تستهدف الأكثر أمنا فأنت ترسل رسالة للجميع بأنهم مستهدفون وتحت النار بلا استثناء.

هذا المعنى أكده رئيس الكنيست أمير أوحانا حين نشر على منصة "إكس" مشاهد من استهداف قطر، معلقا أن هذه "رسالة لكل الشرق الأوسط".

كما لم يبدُ نتنياهو نادما على ما اقترف، بل دعا الدول التي تستضيف قيادات من حماس (سماهم الإرهابيين) لطردهم أو تسليمهم للعدالة، وإلا "فإننا سنفعل ذلك بأنفسنا" في رسالة تهديد للجميع.

يمثل استهداف قيادات حماس في الدوحة ذروة تهور العدوان الإسرائيلي في المنطقة من حيث الكلف السياسية، لكنه يوحي بالاستمرارية بحيث يمكن أن تكون الخطوة القادمة تكرار المحاولة في قطر، و/أو استهداف قيادات من حماس والمقاومة الفلسطينية في دول أخرى مثل مصر وتركيا، و/أو استهدافا مباشرا لدول أخرى في المنطقة بأي ذريعة كانت من منظور الأمن القومي الإسرائيلي الجديد، بمعزل عن مدى وجود قيادات فلسطينية على أراضيها.

وهنا، لا بد من التذكير بأن احتمالات تكرار العدوان على لبنان، وإيران، واليمن ما زالت مرتفعة جدا بالنظر لنتائج المواجهات السابقة والتطورات الأخيرة في البلدان الثلاثة، كما أن التنافس الساخن مع تركيا في سوريا يشي باحتمال تحوله إلى مواجهة غير مباشرة، أو حتى مباشرة.

فالنهج الإسرائيلي في المنطقة لم يعد ينضبط بأي منطق أو أهداف سياسية أو إستراتيجية. كما من المفيد الإشارة إلى التواطؤ الأميركي الواضح في العدوان الأخير، رغم محاولة تنصل إدارة ترامب لاحقا.

تحويل الأزمة لفرصة

رغم كل ما سبق، يمكن تحويل هذه الأزمة والتحدي الكبير إلى فرصة حقيقية لوقف الإبادة في غزة والعدوان على دول المنطقة، خصوصا أن هذا الانفلات من كل عقال منطقي ينبع من نفسية متسرعة لا منتصرة ومطمئنة، فالمنتصر الواثق لا يقدم على حماقات من هذا النوع، لكنه غرور القوة وانتشاء القدرة المتوهمة.

كانت ردات الفعل الدولية على انتهاك سيادة قطر سريعة وحادة ومباشرة، حتى ممن لا يرون بأسا في استهداف قيادات المقاومة. فقطر وسيط رئيس في التفاوض، ودولة خليجية تملك منظومات أمنية ودفاعية مع واشنطن، ولديها علاقات جيدة واستثمارات ضخمة مع معظم دول العالم ولا سيما الغربي.

إعلان

كما كانت محاولة التنصل الأميركية من العملية لافتة، وإن كانت غير مقنعة. يضاف كل ذلك للفشل في اغتيال قيادات حماس، ما يزيد من الضغوط الداخلية على نتنياهو وحكومته إن كان شعبيا أو رسميا، وخصوصا من القيادات العسكرية التي ترى في العملية البرية الواسعة في غزة استنزافا للجيش.

هنا، تتمثل فرصة حقيقية وواقعية وممكنة لوقف الحرب. ينبغي أن تُعاقَب إسرائيل على ما فعلت، وأن تدفع ثمنا حقيقيا للعدوان الأخير، وإلا فالقادم على المنطقة برمتها سيكون أسوأ.

ينبغي على الرد أن يكون قويا لا رمزيا، عمليا لا لفظيا، وجمعيا لا فرديا. وينبغي أن ينطلق من فكرة الدفاع عن النفس، وليس فقط مبدأ التضامن مع فلسطين أو قطر.

ثمة ما يمكن وينبغي فعله على المستوى الفردي للدول، وهناك ما يمكن وينبغي فعله جمعياً. يمكن لقطر ومعها مصر الإعلان عن وقف المسار التفاوضي الذي قتلته إسرائيل بطائراتها التي قصفت وفد التفاوض في الدوحة، والتأكيد بشكل حاسم عن عدم العودة له إلا بالتزام إسرائيلي واضح، وضمانة أميركية معلنة بخصوص وقف الحرب بدل المماطلة وكسب الوقت.

كما يمكن للدول الخليجية مجتمعة إيصال رسالة واضحة وحازمة لإدارة ترامب بضرورة الضغط الحقيقي على نتنياهو و"إسرائيل" لوقف الحرب، مع التلويح بإمكانية إعادة النظر في العلاقات الخليجية – الأمريكية بما يشمل الاستثمارات والاتفاقات ومصالحها المتعددة في المنطقة، وهو ما لن يريد ترامب تعريضه للخطر.

قمة الدوحة: الفرصة الأخيرة؟

في هذا السياق تتبدى الأهمية الاستثنائية للقمة العربية التي تستضيفها العاصمة القطرية. ولأن القمم العربية – الإسلامية السابقة بخصوص غزة توقفت عند حدود التصريحات والقرارات غير المنفذة، ولأن "إسرائيل" كسرت كل حدود المنطق وتجاوزت كافة الخطوط الحمراء وما زالت تحظى بغطاء أمريكي كامل، يمكن أن تكون قمة الدوحة الفرصة الأخيرة للجم العدوان "الإسرائيلي" في غزة والمنطقة، بإرسال رسالة ضغط حقيقية وخطوات عملية على كل من تل أبيب وواشنطن بأن استمرار العدوان لم يعد مقبولاً لون يبقى دون رد وعقاب.

بعضٌ مما ينبغي للقمة العربية اتخاذه من قرارات للتنفيذ المباشر:

أولا، يجب وقف كل العلاقات مع دولة الاحتلال والعدوان، سياسيا واقتصاديا وتجاريا وأمنيا وفي كل المجالات، بما في ذلك طرد السفراء والانسحاب من الاتفاقات الأبراهامية، وغلق الأجواء أمام كافة الطائرات الإسرائيلية، أو تلك المتجهة لها، ومنع مرور أي سفن تتجه لها بغض النظر عن جنسيتها وحمولتها… إلخ. ثانيا، ثمة فرصة حقيقية اليوم لاستدراك الفشل السابق واستثمار الموقف الدولي لكسر الحصار عن قطاع غزة، وإدخال مقومات الحياة الأساسية، ليس فقط كواجب إنساني، ولكن كذلك من تقييم إستراتيجي بأن قطاع غزة يمثل فعلا لا شعارا حائط صد ودفاع للعالم العربي والإسلامي. ثالثا، تسريع وتعميق الخطوات القانونية المرتبطة بتجريم ومحاسبة دولة الاحتلال وقياداتها أمام محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، وبدء الخطوات العملية لطردها من الأمم المتحدة. رابعا، العمل على إعادة النظر في المنظومات الأمنية والدفاعية في المنطقة، ولا سيما ما يرتبط بالولايات المتحدة الأميركية، بدءا من التعاون والتكامل بين دول المنطقة، مرورا بتنويع مصادر السلاح، وصولا للحماية الذاتية على المدى البعيد.

لقد كانت الخطيئة الكبرى لكل من نابليون ثم هتلر ثقتهما المفرطة بقوة جيشيهما وتفوقهما الساحق إزاء الخصوم، ما دفعهما لفتح جبهات عديدة أكبر من قدرتهما على السيطرة والإخضاع طويلا، فكانت ذروة التوسع هي بداية التقهقر لكليهما، كل في زمنه ووفق ظروفه.

في المقابل، فشلت "سياسة الاسترضاء" البريطانية والأوروبية لهتلر قبيل الحرب العالمية الثانية بمنحه منطقة "السوديت" في تشيكوسلوفاكيا، حيث قرأها هتلر ضعفا وترددا شجعه على اجتياح أوروبا بكاملها. في المقابل، كان قرار دخول الحرب بعد احتلال بلجيكا وتعدد الجبهات ضده من عوامل هزيمته.

إعلان

ورغم أن الاقتباس الحرفي في التاريخ ليس واردا، فإن دروسه تبقى حاضرة. اليوم، ثمة فرصة حقيقية لتحويل غرور القوة لدى إسرائيل ونتنياهو إلى انتكاسة، لتكون ذروة العلوّ بداية الانحدار.

لكن ذلك يتطلب قراءة دقيقة لحقبة ما بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول في إسرائيل والمنطقة، وامتلاك رؤية إستراتيجية للتغيير، وإرادة سياسية للمواجهة قبل التعرض لعدوان جديد، من كل دول المنطقة بالبُعدين: الفردي، والجمعي.

اليوم يقف العالم العربي والإسلامي أمام الحقائق العارية والقاسية لمشروع "إسرائيل الكبرى" باستهداف وإضعاف وتقسيم وربما احتلال الكثير من دوله، وبالتالي يقف أمام منعطف تاريخي، وعليه الاختيار بين العمل على وقف الإبادة والعدوان، وإلا انتظار توسع الانتهاكات نحو استباحة شاملة للمنطقة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

0 تعليق