عاجل

دردشة مع الشاعر حيدر غزالي: كل غزيّ شاعر - الأول نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

حاوره زياد خداش:

شاعر يشبه سؤالاً كبيراً: لماذا شعراء غزة يشبهون المعجزة، إذ كيف يمكن لشاعر لم يتجاوز العشرين من عمره، يعيش في سياق غزة المدمر الحالي، أن ينتج كل هذا البهاء الشعري البعيد عن الشعار والمتوقع.
في معرض فلسطين الدولي للكتاب برام الله قبل سنتين كان حيدر يجلس معنا، صغير السن مبتسماً متحفزاً لمعارضة أو تفنيد آراء، كنت أراقبه، كنا حوله مجموعة من كهول الثقافة، كلما قال أحدنا فكرة هز رأسه وتأتأ بكلام مضاد، أحببت استعداده لمعارك حلوة.. هذه دردشة معه:

* أراك نحيلاً وصغيراً تمشي أو تقف بين حطام البيوت يا حيدر، وخلفك عواصف الطحين، ونثار الحديد. هل تخيلت فكرة اختفاء غزة أيها الشاعر؟ هل يحتمل العقل هذا الكابوس ؟؟
- لا، غزة لم تختفِ، غزةُ غادرت نفسَها مع الشهداء، رحلت إلى مكانٍ آخر، يليقُ بالحياة والجمال.
لا، غزة لم تختفِ يا زياد، تجرحُ ذاكرتنا بالحنين، وكلٌّ يُظهرُ ذلك بطريقته، وأنا طريقتي الشعر.
لم تكن مدينتنا جميلة بما يكفي، لكنها كانت تلمّنا كالجدات في الشوارع.
مراوغة، تلمنا؛ لنحكي عن أوجاعنا فيها.
أخذت هذه الحربُ كثيراً من جسدي، نهشته مثل كلب جائع.
لكن عقلي ما زال يدور، لحسن الحظ أو لسوئه، ما زال يسجّل هذا الوجع.

* ما هو المكان الذي تود أن تأكله الآن في رام الله، أنت الذي كنت هناك قبل أسابيع من المجزرة المستمرة؟
- رام الله تجربةٌ شهية، كانت حلماً. خروجي من غزة كان حلماً، لم أجربه سوى في رام الله.
مدهشاً، ومحرّضاً على الكثير من التساؤل.
هناكَ حياةٌ أخرى، وعالمٌ آخر غير غزة. مشتاق لرام الله التحتا.
في المجاعة، حين كان الناس يموتون خلف شاحنات الطحين، حين لم يكن في بيتي رغيف خبز، تذكرت أحلام بشارات، وهي تأخذني إلى فرن الخبز، تذكرت الفطور الذي دعتني إليه مع الرفاق.
لم آكل جيداً، هكذا ادّعت أحلام. لكن ما لا تعرفه أنني شبعتُ من حجارة رام الله التحتا، ورائحتها، وسمائها، وأجراس الكنائس.. كانت صفراءَ مثل فينو.
شبعتُ من دهشتي من ذاك الرجل يبسملُ وهو يفتحُ دكان الخمر، كان نقياً، مثل "يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم" التي قالها.
كانت رام الله شهيةً في اختلافاتها.. شهيةً جداً.
عشتُ المجاعةَ يا زياد، وحين لم يكن في بيتي حفنة طحين واحدة، كان بإمكاني أن أحصل على الطحين من إحدى الشاحنات، لكنني ساعدت بعض الناس في حمل الأكياس، وعدت إلى جوعي.. لستُ محتاجاً لآكل مكاناً من رام الله، لكنني أشتاقها.

* هناك شعراء يسطعون الآن في المذبحة شعريّاً.. أهي طريقة نجاة أم سباق مع الشعر أم خوف من ضياع اللغة؟؟ أم أسلوب دفاع عن العقل؟
- أرى الأمر مختلفاً معي. لا أريدُ من الشعر شيئاً، ولا حتى أن يخفف عني، أريدُ أن أبقى على وجعي؛ لأكتب، بكل حرارة وصدق.
هي طريقة للنجاة.. نعم، لكنها نجاةٌ للوجع الفلسطيني الإنساني الذي نعيشه في غزة، لا توقف الكتابةُ هذا الموت، لكن باستطاعتها أن تخلّد هذا الوجع، أن تحفظَ روايتنا، والمظلمة التاريخية التي تقعُ علينا هنا في غزة.. وهذا واجبٌ عليّ، لا يعطيني أي أفضلية.
كان من الممكن أن أحتفظ بنصوصي؛ لنشرها في كتاب، لكنني حينها سأخون وجعي ووجع شعبي، هذه فردية مطلقة.
أنا أواجه الأخبار العاجلة، بالشعر.. أواجه عقمها، وجفافها من حرارة الوجع، بلغةٍ أكثر سخونةً ومشهدية.
أنا في هذه الكتابة أوصل رسائل للعالم، من قلب الإبادة والمجاعة التي نعيشها في شمال القطاع.. والرسائل التي لا تصلُ في أوقاتها المناسبة، تصيرُ جافّةً، تفتقر التفاعلَ الشعوري.

* نصوصك تصل إلى العالم ويتم الترحيب بها.. هل يقلقك أن انتشارك وانتشار غيرك ربما يكون سببه وجود تعاطف وطني وإنساني مع كونك غزيّاً تحت القصف؟ هل أنت واعٍ لهذه المسألة؟؟
- هذا سؤال مقلق، سألته لنفسي كثيراً، وكتبت حوله نصاً.. في أواخر حزيران سأصل العشرين، لم تعطني الحياةُ سوى الحب والحرب، وكلاهما موجع.
"لم أكن أريد أن أكون شاعر موت وحرب" هكذا افتتحتُ النص، لكنها الحياةُ التي أعيشها يا زياد، وأنا ابن حياتي، ومشاعري، وتجاربي.
لغزة خصوصية مختلفة عن جميع مدن الوطن، بثقافتها، وتطلعاتها، وأوجاعها التي تجعل من ناسها شعراء.
كل غزّي شاعر يا زياد، الألم المكدّس فوق صدورنا يجعلنا شعراء، نعبر عنه بطرق مختلفة.
أحترم جميع شباب الوطن، لكننا في غزة ندرك معنى أن تكون على الجبهة، ونعرف كيف نخاطب العالم.
أرى أنّ التعاطف العالمي مع غزة، هو نجاحٌ لذاك الطفل الذي عاش الانتفاضة والحروب، والقتل، وكبر ليجابه العالم بكل اللغات، وهو جزء من عدة عوامل أخرى.
وهذا نتاج التجربة، وعلى الغزي أن يكون نموذجاً للكل الفلسطيني.

* تكتب الآن نصوص الحب ممزوجة بخوف وأسئلة غير معتادة، لماذا تحضر النساء الجميلات بقوة وقت المجزرة؟ لدينا نماذج كثيرة في شعر لوركا ونيرودا ومحمود درويش وغيرهم.
- وأنت تعيش الإبادة، تحت الطائرات والقذائف وبين الجثث، يحملك التفكير إلى أسئلة وجودية أهمّها: ما سر وجودي هنا؟ ما سر حياتي؟
خسرنا كلّ شيء يا زياد: الأماكن، والشوارع، وأحلامنا، والأصدقاء، وعلينا ألّا نخسر قلوبنا..
الحبُّ في زمن الإبادة حلاوةٌ موجعة.
تذكرنا بما مضى، وتحملنا إلى مستقبل أجمل في الخيال والأمنيات.
الحبُّ في زمن الإبادة، محاولةُ أسيرٍ يحفرُ ثقباً في الجدار؛ ليدرك عتمةَ السجنِ، ولا ينسى فكرة الشمس.
هكذا الحب، يذكرنا بكل ألم أننا كنا نعيش الحياة، ويذكرنا بكل أمل، أننا سنعيش.

 

0 تعليق