عاجل

"سادن المحرقة" لباسم خندقجي.. تشريح الصدمة والهوية! - الأول نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

كتبت بديعة زيدان:

تُشكل رواية "سادن المحرقة" للكاتب باسم خندقجي رحلة في أعماق النفس الممزقة، واستكشافاً عميقاً ومقلقاً لمفاهيم الصدمة، والهوية، والتاريخ المتشابك لفلسطين وإسرائيل، عبر سرد يعكس الحالة الذهنية المشتتة للبطل، بحيث تغوص الرواية في الهاوية النفسية لرجل عالق في مرمى نيران الذاكرة الشخصية والمعاناة الموروثة.
تتمحور الحكاية حول "أور شابيرا"، رجل إسرائيلي يبلغ من العمر 37 عاماً، يعاني من اضطراب ما بعد الصدمة الحاد. صدمته النفسية هي نسيج معقد من وحشية خدمته العسكرية في حرب لبنان الثانية وحرب غزة ، ومقتل أخيه "جدعون" على يد من يصفهم بـ"المخربين"، وفقدان أجداده وأمه بسبب جائحة كورونا، ودخول والده في غيبوبة عميقة.
واعتبر خندقجي "سادن المحرقة"، الصادرة عن دار الآداب في بيروت، جزءاً ثانياً من روايته "قناع بلون السماء"، الفائزة بالجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر)، لذا كان لا بد أن أذكر أن الشخصية المحورية "نور" في الرواية الأسبق، وبسبب ماضي والده النضالي في مقاومة الاحتلال، وكونه أسيراً سابقاً، لم يُمنح تصريح عمل في "الداخل"، فكان يعمل دون تصريح، أي يدخل إلى القدس "تهريباً"، إلا أن "ملامحه الأشكنازية" كانت تساعده في التخفي، إلى أن وقعت في يده هويّة "زرقاء" كان قد عثر عليها في جيب معطف اشتراه من سوق للملابس المستعملة، هي للإسرائيلي "أور شابيرا" الذي يقطن تل أبيب ويكبره بخمس سنوات، وهو اسم يعني بالعبرية "نور" أيضاً.
وبالعودة إلى "سادن المحرقة" فإنه يمكن توصيف حياة "أور" باعتبارها رحلة بحث عن "نقطة تعيين"، عن حدث جوهري يعتقد أنه مصدر كل عذاباته.
هذا البحث يبدأ بناءً على اقتراح طبيبته النفسية، "الدكتورة هداس ستورنبرغ"، التي تشجعه على تدوين ذكرياته، وهنا، تصبح عملية الكتابة هذه أداة سردية مركزية، تطمس الحدود بين الواقع والذاكرة والهلوسة، حيث يلجأ أور غالباً إلى الانفصال عن ذاته بالكتابة بصيغة الغائب.
يحدث تحول جذري في حياته عندما تبدأ تراوده أحلام مقلقة باللغة العربية، وهي لغة لا يتحدث بها، فتقوده هذه الظاهرة الغامضة إلى مريم فاطم، وهي شابة عربية تصبح معلمته للغة.. تتجاوز دروسهما حدود اللغة، لتتحول إلى حوار معقد ومشدود في كثير من الأحيان حول روايتي شعبيهما المتضاربتين.
ويأتي الكشف عن أن منزل أور في "جفعات شاؤول" يقوم على أنقاض قرية دير ياسين الفلسطينية، التي كانت مسرحاً لمجزرة مروعة ارتكبتها العصابات الصهيونية بحق أهل البلاد الأصلانيين في العام 1948، ليكون لحظة محورية ومزعزعة للاستقرار في رحلته.
وهذا يدفعنا للحديث عن "طفلة القبو"، هذه الشخصية الشبحية التي تسكن قبو المنزل في دير ياسين، وتشكل التجسيد الحرفي للصدمة الفلسطينية المكبوتة، بحيث تتحدث إلى "أور" بالعربية في أحلامه، وكأنه تذكير طيفي بتاريخ يرفض أن يُدفن.
وتعتبر "طفلة القبو" من أقوى الرموز وأكثرها تأثيراً في "سادن المحرقة"، فهي ليست مجرد شخصية عابرة، بل تجسيد حي ومؤلم للصدمة المكبوتة والذاكرة الممحوة للتاريخ الفلسطيني، وتحديدًا نكبة قرية دير ياسين، حيث دورها يتجاوز السرد التقليدي ليصبح محركاً أساسيّاً في الصراع النفسي الذي يعيشه "أور شابيرا".
تظهر "طفلة القبو" لأول مرة في أحلام "أور" وكوابيسه، بعد انتقاله للعيش في منزل أجداده في "جفعات شاؤول"، التي اكتشف لاحقاً أنها مقامة على أنقاض قرية دير ياسين، تظهر ككيانٍ شبحي لطفلة صغيرة، غالباً ما تكون في حالة رثة ومأساوية، وتتخذ من قبو المنزل مسكنًا لها.
توصف بأنها "هيئة بشرية ضئيلة"، حيث أن وجهها في البداية لا يكون آدميّاً تماماً، بل "جمجمة فارغة من معالم الحياة والملامح" ، ما يعكس طمس هويتها وتجريدها من إنسانيتها، فيما تتجلى أفعالها في الغناء والترنيم بلغة غريبة (العربية)، ونشب أظافرها في حائط القبو كما لو أنها تخط كلمات معينة، في رمزية لكونها محاولة يائسة لتدوين تاريخ تم محوه بالقوة.
تتحدث "طفلة القبو" دائماً باللغة العربية، وهي اللغة التي بدأ "أور" يحلم بها بشكل غامض ومقلق.. لغتها هي لغة "الآخر" المكبوت في لاوعي "أور"، وهي الجسر الذي يربطه بماضٍ لم يكن يعرفه، بحيث تلعب هذه الطفلة الشبحية أدواراً متعددة ومعقدة في الرواية، كتجسيد النكبة وذاكرة المكان، ومحفز الصراع النفسي لـ"أور"، وحلقة الوصل بين صدمتين (المحرقة والنكبة)، علاوة على كونها صوت الحقيقة والوعي، فهي الصرخة المكتومة لضحايا النكبة التي تجد طريقها إلى وعي جلادها، لتجبره على النظر في المرآة ورؤية الحقيقة المروعة التي بُني عليها واقعه.
وتُشكّل الأمكنة في "سادن المحرقة" شخصيات حيّة بحد ذاتها، فهي ليست مجرد خلفيات للأحداث، بل هي فضاءات مشحونة بالذاكرة والتاريخ والصدمات المتوارثة، فكل مكان يحمل طبقات من المعنى، وتتفاعل الشخصيات معه وبداخله ليكشف عن صراعاتها وهويتها الممزقة، فجفعات شاؤول التي كانت دير ياسين شكلت "أرض الصدمتين"، فهذا المكان هو المركز العصبي للرواية، حيث تتكثف الصدمة الشخصية والجماعية، علاوة على كونه يمثل الازدواجية القاتلة بين السردية الإسرائيلية والفلسطينية.
وتظهر تل أبيب في الرواية باعتبارها مدينة الحداثة والهشاشة، بحيث تمثل الحاضر الإسرائيلي العلماني، لكونها مدينة بنيت على الحداثة والقطيعة مع الماضي، لكنها بالنسبة لأور، مكان للوحدة والعزلة والذكريات المؤلمة، حيث شقة العائلة في جادة روتشيلد، وكانت مسرح طفولته، لكنها تحولت إلى مكان للأحزان بعد أن وصلهم فيها خبر مقتل أخيه جدعون، لذا فإن عودته هي عودة إلى الخواء والذكريات المهجورة.
أما عيادة الدكتورة هداس في شارع ديزنكوف، فهي مساحة علاجية معقمة وزرقاء، ترمز إلى المحاولة العقلانية والمنهجية لتفكيك الصدمة، وفيها، يسرد "أور" ذاكرته ويواجه ماضيه، لكن العلاج يظل سطحياً أمام عمق الجرح. أما شوارع المدينة المزدحمة بالحياة فتبرز عزلة "أور" الداخلية وشعوره بالغربة.
وتظهر "يافا" في الرواية باعتبارها فضاء اللقاء والمواجهة، فبحضورها العربي الواضح، تمثل نقطة التقاء بين عالمي "أور" و"مريم"، حيث المركز التعليمي، هذا الفضاء المحايد، الذي تتحول دروس اللغة العربية فيه إلى حوارات مشحونة حول التاريخ والهوية والضحية.. هنا، يضطر "أور" لأول مرة في حياته إلى مخاطبة "الآخر"، الفلسطيني هنا، كإنسان له سرديته الخاصة، وليس كـ"مخرب" أو عدو.
أما فضاءات الحرب والذاكرة الموروثة، فلا تظهر كأحداث حالية، بل كاستعادات وذكريات محفورة في نفس "أور"، كما في حال "بنت جبيل" في لبنان، و"الشجاعية" في غزة، باعتبارها مسارح القتال التي شكلت صدمة "أور" المباشرة، أو أماكن الموت والدمار ورائحة اللحم المحترق، بحيث ترتبط هذه الأماكن بشخصية أور الجندي ورفاقه الذين قُتلوا، الأمر ذاته ينطبق بشكل أو بآخر على "أوشفيتز"، مكان الذاكرة الموروثة، الذي زاره "أور" مرّة واحدة في رحلة مدرسية، لكنه حاضر باستمرار من خلال جدته "سوزانا"، والرقم الموشوم على ذراعها.
ويُظهر خندقجي براعة في أسلوبه السردي، حيث يتدفق السرد كـ"تيار وعي" جارف يعكس الحالة الذهنية المفككة لـ"أور"، حيث التحولات المتكررة في المنظور، خاصة استخدامه لصيغة الغائب لوصف حياته الخاصة، علاوة على التنقل بقوة إحساسه بالانفصال والغربة عن ذاته.
وساهمت في ذلك اللغة الغنية ومتعددة الطبقات، والتفاعل بين العبرية والعربية في وعي "أور" عند خندقجي في الرواية المشبعة بالرمزية، من فكرة العمى والبصيرة المتكررة، إلى الحفرية الأثرية التي تبحث عن تابوت العهد، والتي تعمل كاستعارة للبحث العبثي عن حق مطلق في أرض غارقة في تواريخ متعددة، فيما لا تُقدَم الرواية المحرقة والنكبة كمسألتين متنافستين، بل كصدمتين مترابطتين تلقيان بظلالهما الطويلة على الأجيال اللاحقة.
"سادن المحرقة" رواية شجاعة وصادقة، تتجاوز الخطاب السياسي لاستكشاف الثمن الإنساني للصراع.. إنها حكاية عن الطبيعة الخبيثة للصدمة، وعن مراوغة الحقيقة، وعن القوة المؤرقة للذاكرة، فقد صاغ خندقجي عملاً أدبياً يتحدى القراء للنظر إلى ما وراء العناوين الرئيسية وإلى القلب المعذب لأرض تعيش مع أشباحها.

 

0 تعليق