خلال تغطية تلفزيونية لإضراب طلابي في مدينة أنتسيرابي بجزيرة مدغشقر عام 1972، استوقف المراسل مجموعة من الشباب الذين شاركوا بالغناء في فعاليات الإضراب، وسألهم عن اسم فرقتهم الموسيقية، لم يكن حينها أولئك الموسيقيون يعتبرون أنفسهم فرقة بعد، ولم يكن لديهم اسم رسمي.
لكن أحدهم، دون الرجوع إلى رفاقه، أجاب تلقائيا: "ماهاليو"، هكذا وُلد الاسم. والكلمة تعني "الحر" أو "المستقل"، لكنها تحمل دلالة أعمق: القوة على الانتصار، والمقاومة، والصمود، والقدرة على الإنجاز.
لاحقا، تبنّت المجموعة اسم "زافيماهاليو"، الذي يعني "من نسل المحترمين". ووجدوا فيه تعبيرا عن رسالتهم في تمكين الفئات المهمشة، وتعزيز الثقافة والقيم الملغاشية في مرحلة ما بعد الاستعمار.
ومنذ ذلك الحين، بدؤوا في تأليف وأداء أغنيات تُجسّد الهوية الوطنية، وتعكس هموم الشباب والمجتمعات الريفية، مؤكدين عبر موسيقاهم التزامهم بالقضايا الاجتماعية والثقافية التي تمس حياة الناس اليومية.
مدغشقر: من ساحة حرب إلى نضال استقلال
مدغشقر، خامس أكبر جزيرة في العالم، تقع في المحيط الهندي قبالة الساحل الجنوبي الشرقي لأفريقيا. خضعت للاستعمار الفرنسي منذ عام 1885، لكنها اكتسبت أهمية إستراتيجية بعد سقوط فرنسا في الحرب العالمية الثانية عام 1940، حين تحولت إلى ساحة مواجهة بين قوات الحلفاء ونظام فيشي الفرنسي.
في عام 1942، شنّت بريطانيا وحلفاؤها حملة عسكرية للسيطرة على الجزيرة، بهدف تأمين الموانئ الحيوية وخطوط الإمداد، قبل أن تُسلّمها لاحقا إلى فرنسا عام 1943.
وبعد انتهاء الحرب، دخلت مدغشقر في مرحلة نضال طويل ضد الاستعمار الفرنسي، بلغ ذروته في الانتفاضة الكبرى عام 1947، التي خلّفت آلاف القتلى وقوبلت بقمع شديد، مما أدى إلى إنهاء المقاومة المسلحة بحلول عام 1949.
تركت تلك الأحداث أثرا بالغا في الوعي الوطني، وشكّلت تحديات سياسية امتدت لعقود، إلى أن نالت الجزيرة استقلالها الكامل عام 1960.
إعلان
" frameborder="0">
في اليوم الأول من الاحتجاجات الطلابية بمدينة أنتسيرابي في مدغشقر، بتاريخ 13 مايو/أيار 1972، قدّم داما وراؤول، وهما من مؤسسي فرقة "ماهاليو"، أغنية بعنوان "ماتوا زهاي ماناو جيريفي"، أي "لماذا نحن مضربون؟". وسرعان ما تحولت هذه الأغنية إلى واحدة من أشهر أعمال الفرقة، وإلى نشيد احتجاجي ارتبط بثورة 1972.
جاءت كلمات الأغنية معبّرة عن رفض السياسات الاستعمارية التي ظلت قائمة في البلاد بعد الاستقلال، وأسهمت في رفع الوعي الشعبي تجاه الظلم السياسي والاجتماعي.
وقد عبّر الطلاب المحتجون من خلالها عن مطالب واضحة: إنهاء النفوذ الفرنسي في النظام التعليمي، وتعديل المناهج الدراسية، وإقالة المعلمين الفرنسيين من المدارس.
تحوّلت الأغنية إلى رمز ثقافي للنضال الملغاشي، تُجسّد رفض الظلم، وتُعبّر عن توق الجماهير لسماع صوتها والتعامل معها بكرامة.
وبفضل بساطتها وصدقها، ساهمت في توسيع دائرة الاحتجاجات، وأصبحت جزءا من الذاكرة الجماعية للحركة المناهضة للسياسات الاستعمارية المتبقية. وتدور كلمات الأغنية حول هذه المطالب، ومن أبرز ما جاء فيها:
لماذا نرفع أصواتنا؟
لأن الصمت لم يعد يحمينا،
لأن الكتب في مدارسنا
تروي قصصا لا تشبه وجوهنا،
لأن الطرقات ضاقت بأحلامنا
ونريد سماء أوسع للحرية

فرقة "ماهاليو" .. صوت الحرية والهوية في مدغشقر
لا تنحصر الموسيقى في مدغشقر ضمن نوتة واحدة أو سلم موسيقي موحد، بل تنبع من تنوّع غني يجمع بين السلالم الخماسية والسباعية، ويعكس مزيجا فريدا من التأثيرات الأفريقية التقليدية، خاصة في الأداء الصوتي واستخدام الآلات الإيقاعية، إلى جانب أنماط موسيقية متعددة تُضفي على المشهد الفني طابعا خاصا.
وسط هذا التنوع، برزت فرقة "ماهاليو" كأهم فرقة موسيقية في البلاد، وحاملة راية الهوية الثقافية الملغاشية لأكثر من 4 عقود.
تأسست الفرقة يوم 13 مايو/أيار 1972 على يد راسولوفوندراوسولو زافيماهاليو، المعروف باسم "داما"، إلى جانب 6 من زملائه، وذلك عقب مشاركتهم الأولى في الاحتجاجات الطلابية التي شهدتها مدينة أنتسيرابي.
ومنذ ذلك الحين، رسّخت الفرقة مكانتها في الوجدان الشعبي، واستقطبت جمهورا واسعا امتد عبر 3 أجيال، واحتشد بالآلاف في حفلاتها الحية.
تميّزت "ماهاليو" بدمجها بين الموسيقى الشعبية ورسائل المقاومة السياسية، فجعلت من أغانيها صرخة جماعية للتغيير.
وتستند كلماتها إلى تقاليد أدبية ملغاشية عريقة، مثل الشعر الشعبي المعروف بـ"هاينتيني"، والأمثال التقليدية "أوهابولانا"، لتتناول قضايا اجتماعية وسياسية معاصرة، وتدعو الجمهور إلى التفكير النقدي وإيجاد حلول ذاتية تنبع من واقعهم المحلي.
ابتكرت "ماهاليو" نوعا موسيقيا فريدا أطلقت عليه اسم "تسينتسيغا"، يمزج بين الأغاني الشعبية وأغاني الاحتجاج التقليدية، باستخدام الغيتار الصوتي وآلات تقليدية مثل "كابوسي" وفلوت "السودينا"
"ماهاليو" .. أكثر من فرقة موسيقية: صوت وطني ومسيرة تنموية
على امتداد مسيرتها الفنية، ألّفت فرقة "ماهاليو" أكثر من 300 أغنية، ملتزمة برسالة راسخة تجمع بين التضامن الوطني والتنمية المجتمعية.
ورغم انخراط أعضائها في العمل الموسيقي، فقد حافظ كل منهم على مسيرته المهنية الأساسية في مجالات متنوعة، شملت الطب، وعلم الاجتماع، والزراعة، والسياسة، مما أضفى على الفرقة طابعا إنسانيا متعدد الأبعاد.
أطلقت الفرقة بشكل جماعي مبادرتين تنمويتين، إلى جانب أنشطة اجتماعية وثقافية أخرى يديرها أفرادها بشكل مستقل، مما يعكس التزامهم العملي بقضايا الناس.
إعلان
وعلى الرغم من فقدان عدد من أعضائها على مر السنين، فإن "ماهاليو" تواصل الحفاظ على إرثها الفني والوطني، مؤكدة أن الموسيقى ليست مجرد فن، بل إنها جسر بين الأجيال ومرآة للهوية الملغاشية.
على الصعيد الدولي، قامت الفرقة بجولات موسيقية في فرنسا وكندا والولايات المتحدة، وكانت أول فرقة ملغاشية تُدعى للعزف في قاعة "أولمبيا" التاريخية في باريس.
كما كانت موضوعا لكتابين وفيلم وثائقي، مما يعكس تأثيرها العميق في المشهدين الموسيقي والثقافي داخل مدغشقر وخارجها.
"روتاكا" .. انتفاضة شعبية أطاحت بالجمهورية الأولى
بين أبريل/نيسان 1971 ومايو/أيار 1972، شهدت مدغشقر سلسلة من الاحتجاجات الشعبية عُرفت باسم حركة "روتاكا"، قادها المزارعون والطلاب ضد سياسات الرئيس فيليبرت تسيرانانا، وأسهمت في إسقاط الجمهورية الأولى في البلاد.
بدأت شرارة الحركة من العاصمة أنتاناناريفو في أبريل/نيسان 1971، وسرعان ما امتدت إلى مختلف المدن، حيث عبّر الطلاب عن رفضهم السياسات التعليمية ذات الطابع الاستعماري، مطالبين بإصلاح المناهج الدراسية، وإنهاء وجود المعلمين الفرنسيين في المدارس.
ويوم 24 أبريل/نيسان 1972، نظّم طلاب المدارس الثانوية مظاهرات تضامنية مع زملائهم في كلية الطب، لتتحول إلى نقطة تحول في الحراك الوطني المناهض للقمع.
امتازت الاحتجاجات بطابع ثقافي وفني نابض، إذ شارك فيها طلاب موهوبون في الموسيقى والشعر والمسرح، مما أضفى على التجمعات روحا من التفاعل والتفاؤل.
وكانت أغنية "لماذا نحن مضربون؟" التي قدّمها داما وراؤول من فرقة "ماهاليو" نموذجا للأغاني الاحتجاجية التي ألهمت الحراك، إلى جانب أعمال سياسية أخرى مثل "تسيندري هازو لينا" (المضطهدون)، التي عبّرت عن رفض الظلم ودعوة للتغيير.
" frameborder="0">
إذا حلّ هذا الصباح الجديد
ماذا سنفعل؟
أعمل أم ألعب؟
إذن علينا أن نعمل
حتى لو كان الراتب زهيدا
إذن علينا أن نخطط
لأننا نحتاج إلى أشياء كثيرة
الفن في قلب الاحتجاج: "روتاكا" والهوية الملغاشية
لم تقتصر حركة "روتاكا" الاحتجاجية في مدغشقر على المطالب السياسية فحسب، بل حملت في طياتها رسالة ثقافية عميقة تعزز الهوية الوطنية الملغاشية.
فقد كتب الفنان داداه، أحد أعضاء فرقة "ماهاليو"، أولى كلمات الأغاني باللغة الملغاشية، في خطوة رمزية أعادت الاعتبار للغة المحلية في التعبير الفني، وسرعان ما تبعه زملاؤه في المجموعة، ليصبح الفن جزءا أصيلا من الحراك الشعبي.
بهذا المعنى، لم تكن احتجاجات "روتاكا" مجرد تحركات شبابية أو طلابية، بل شكّلت موجة شعبية واسعة، ساهمت في إخراج البلاد من حقبة الجمهورية الأولى نحو مرحلة جديدة من التحولات السياسية والاجتماعية، حيث أصبح التعبير الثقافي أداة مركزية في مقاومة السياسات الاستعمارية المتبقية.
"داما" من المسرح إلى السياسة: ترشح رئاسي يثير الاهتمام
في تطور غير متوقع على الساحة السياسية في مدغشقر، أعلن الفنان زافيماهاليو راسولوفوندراوسولو، المعروف فنيا باسم "داما" وعضو فرقة "ماهاليو" الشهيرة، ترشحه للانتخابات الرئاسية لعام 2018.
ويمثل "داما" حزبا سياسيا يُدعى "فياراها-مينتاني فاليمبابينا هو آني مدغشقر"، الذي يركز على العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة.
وجاء الإعلان الرسمي عبر منشور على صفحة الفرقة بموقع فيسبوك، وكان "داما" أسس هذه الصفحة للتواصل مع الشباب ومناقشة قضايا الثقافة والسياسة والمجتمع.
كما اختار أن يُعلن ترشحه من داخل مدرسة "إيسكا" الإعدادية في حي أنتانيمينا، في خطوة رمزية تربط بين التعليم، والفن، والعمل السياسي.
ترشح "داما" للرئاسة أثار اهتماما واسعا داخل مدغشقر وخارجها، نظرا لمكانته الفنية والثقافية، ولرمزية انتقاله من التعبير الموسيقي إلى الفعل السياسي، في محاولة لترجمة رسائل فرقة "ماهاليو" إلى سياسات واقعية تمس حياة المواطنين.

داما: من علم الاجتماع إلى صوت الشعب
وحصل الفنان داما مؤهلات أكاديمية في علم الاجتماع، إلى جانب تجربة سياسية سابقة كعضو في مجلس نواب مدغشقر.
إعلان
ويُعرف داما بمواقفه الاجتماعية الصريحة، إذ انتقد مرارا انحياز السياسات الرسمية لمصالح النخبة، داعيا إلى حماية الموارد الطبيعية للبلاد.
وفي أحد تصريحاته الشهيرة، قال "هذه الأرض، مدغشقر، وحدها القادرة على إعالتنا… أي نوع من مدغشقر سنتركه لأبنائنا؟".
وُلد داما يوم 26 مايو/أيار 1954 في مارولامبو، بمنطقة تاماتاف شرقي مدغشقر، وتوفي في نوفمبر/تشرين الثاني 2019.
بدأ داما مسيرته الفنية في الـ17 من عمره عندما ألّف أولى أغانيه الشهيرة "أدين-تساينا" (Adin-Tsaina)، وتُترجم عبارتها إلى "صراع الفكر" أو "قلق العقل"، وهي تعبير شعري عن الحيرة والتمزق الداخلي الذي يعيشه الإنسان في مواجهة الظلم والواقع السياسي والاجتماعي.
وخلال دراسته الجامعية لعلم الاجتماع أوائل سبعينيات القرن الماضي، أسّس فرقة "ماهاليو"، التي ارتبطت بموجة الاحتجاجات الطلابية عام 1972، وسرعان ما تحولت إلى صوت جماهيري واسع وحققت نجاحا كبيرا داخل البلاد وخارجها.
"ماهاليو".. أنغام تجسد روح مدغشقر
في مدغشقر، حيث تتقاطع قسوة الحياة الحضرية مع الحنين إلى البساطة، وحيث يواجه الشباب تحولات سريعة بين الطموح والواقع، تحوّلت أغاني فرقة "ماهاليو" إلى مرآة صادقة لحكايات الناس، وآمالهم، وخيباتهم.
وحسب مجلة كاليفورنيا نيوزريل، نادرا ما استطاعت فرقة موسيقية التعبير عن وجدان شعبها بعمق وثبات كما فعلت "ماهاليو"، مستمدة قوتها من انخراط أعضائها في الحياة اليومية، وسعيهم المستمر للمساهمة في تنمية وطنهم.
ويصف أحد صحفيي راديو فرنسا الدولي تراث الفرقة بأنه أصبح جزءا لا يتجزأ من الذاكرة الثقافية لمدغشقر، قائلا إن دفء نار المخيمات في مرتفعات الجزيرة لا يكتمل من دون أن تصدح أنغام "ماهاليو"، التي باتت رمزا حيا لروح مدغشقر الحديثة.
0 تعليق