أثار تحرك المفوضية الأوروبية ضد إسرائيل بخطوة استثنائية تحمل دلالات سياسية واقتصادية عميقة تساؤلات عديدة بين المحللين، حيث اقترحت تعليق اتفاق التجارة مع إسرائيل جزئيا ردا على العملية العسكرية في قطاع غزة.
وفي السياق، أوضحت كايا كالاس، مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي ونائبة رئيسة المفوضية الأوروبية، أن المفوضية اعتمدت مقترحا لتعليق جزئي للتفضيلات الجمركية مع إسرائيل.
وأكدت أن الهدف ليس معاقبة إسرائيل بل تحسين الوضع الإنساني في غزة والضغط على الحكومة الإسرائيلية لتغيير مسارها.
ويتضمن هذا المقترح الطَموح فرض رسوم جمركية على الصادرات الإسرائيلية بقيمة 6 مليارات يورو، وهو رقم يطال حوالي 37% من إجمالي الصادرات الإسرائيلية، بما في ذلك الفواكه وبعض المنتجات الصناعية.
إلى جانب ذلك، تتضمن الحزمة المقترحة عقوبات مستهدفة على الوزيرين "المتطرفين" إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، بالإضافة إلى المستوطنين المتورطين في العنف ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية.
وفي تقييمه لهذا التطور، أكد أستاذ العلوم السياسية الدكتور زياد ماجد أن هذه أول مرة تتحدث فيها المفوضية بشكل واضح عن عقوبات تتخطى المنتجات الواردة من الضفة الغربية المحتلة لتشمل كل المنتجات الإسرائيلية.
بيد أن هذه الأهمية التاريخية تصطدم بعقبات سياسية معقدة، حيث يتطلب تنفيذ هذه العقوبات موافقة الدول التي تمثل 65% من تعداد سكان الاتحاد الأوروبي.
وتبرز التحديات بوضوح عند النظر إلى المعارضة المحتملة من دول أوروبية رئيسية، وعلى رأسها ألمانيا التي تعتبر أحد الحلفاء الرئيسيين لإسرائيل، إضافة إلى إيطاليا وهنغاريا وجمهورية التشيك.
وفي هذا الصدد، أوضح ماجد أن هذه الدول الأربع تستطيع عرقلة التطبيق بسبب وزنها الديمغرافي داخل الاتحاد.
طريق جديد
ومع ذلك، يفتح هذا المقترح طريقا جديدا للعمل الأوروبي، حيث أشار ماجد إلى إمكانية قيام دول منفردة باعتماد هذه العقوبات أحاديا إنْ فشل الاتحاد في فرضها جماعيا، مما يخلق سابقة مهمة للعمل المستقل داخل الإطار الأوروبي.
إعلان
ومن الناحية الاقتصادية، تكتسب هذه العقوبات أهمية خاصة نظرا لطبيعة العلاقة التجارية بين إسرائيل والاتحاد الأوروبي، وفي هذا الإطار، أشار الأكاديمي والخبير في الشؤون الإسرائيلية الدكتور مهند مصطفى إلى أن هذه التوصيات موجعة فعلا لإسرائيل، خاصة مع الاتحاد الأوروبي الذي يعتبر أكبر شريك اقتصادي لها.
ويدعم هذا التقييم حقيقة أن ثلث الصادرات الإسرائيلية تتجه إلى الاتحاد الأوروبي، بينما ترتبط الصناعات الإسرائيلية وإنتاج العلم والمعرفة والبحث العلمي بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي أكثر من الولايات المتحدة.
لكن التأثير لا يقتصر على الجانب الاقتصادي المباشر، حيث أكد مصطفى أن هذه العقوبات تحمل بعدا مضاعفا، فبينما تضر اقتصاديا، فإنها أيضا تشجع المجتمع المدني الأوروبي على مقاطعة إسرائيل، مما يعطي شرعية أكبر للحركات الشعبية والفنية والأكاديمية التي تدعو للمقاطعة.
وبالتالي، يعمق هذا الأمر من عزلة إسرائيل على كافة المستويات، ليس فقط دبلوماسيا بل أيضا على صعيد القطاعات المختلفة في المجتمع الإسرائيلي.
وعلى الجانب الآخر، لم تتأخر إسرائيل في تقديم ردها الرسمي على هذا التطور، حيث اعتبر وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر توصيات مجلس المفوضية مشوهة أخلاقيا وسياسيا، مؤكدا أن أي خطوات ضد إسرائيل ستضر بمصالح أوروبا نفسها.
كما أكد ساعر أن إسرائيل ستواصل بدعم من حلفائها في أوروبا محاربة محاولات الإضرار بها، مهددا بالرد على أي إجراءات ضد إسرائيل بالشكل المناسب.
وفي تحليل أعمق للإستراتيجية الإسرائيلية، أوضح مصطفى أن إسرائيل تعتمد 3 أدوات رئيسية في التعامل مع هذه المقاطعة، تتمثل الأداة الأولى في نهج عنصري يقوم على اتهام المسلمين في أوروبا بأنهم السبب في موجة الاحتجاج ضدها.
أما الأداة الثانية فتتمثل في الرهان على اليمين الشعبوي المتطرف لمنع أي عقوبات، بينما تركز الأداة الثالثة على الاعتماد على بطء الحراك الرسمي مقابل محاولة نزع شرعية الحراك الشعبي.
الضغط الشعبي
يأتي هذا التطور الرسمي في سياق موجة ضغط شعبي متنامية عبر القارة الأوروبية، وفي هذا الصدد، أكد الكاتب والباحث حسام شاكر أن أوروبا تواجه استحقاقا أخلاقيا أمام شعوبها وموظفي الوحدة الأوروبية المعترضين على السياسات الأوروبية الحالية.
وفي الوقت نفسه، لفت شاكر إلى أن الموقف الأوروبي الرسمي ما زال يتجاهل تعبير الإبادة الجماعية ولم يشر إلى تقرير لجنة التحقيق المستقلة التابعة للأمم المتحدة التي وصفت ما يحدث في غزة بالإبادة الجماعية.
ويتزامن ذلك مع تأكيد ماجد أن الضغط الشعبي بدأ يثمر بوضوح، حيث لم يسبق للموضوع الفلسطيني أن كان بهذا الحضور لدى جيل جديد في أوساط نخب ثقافية وأكاديمية مؤثرة في الرأي العام.
ويتجلى هذا الضغط في النقابات والأحداث الثقافية والمظاهرات والجامعات والأنشطة الرياضية والموسيقية، مما يضع الاتحاد الأوروبي في موقف محرج ويدفعه نحو اتخاذ مواقف أكثر حزما.
وفي إشارة إلى الأهمية الرمزية والسياسية للخطوة، رحب رئيس المجلس الأوروبي أنطونيو كوستا بمقترحات المفوضية الأوروبية، مؤكدا أن الهدف إثبات أن أوروبا لا تقبل تصرفات الحكومة الإسرائيلية التي تجاوزت بكثير الحق المشروع في الدفاع عن النفس.
إعلان
ويثير هذا التطوير تساؤلات مهمة حول المستقبل، حيث أشار ماجد إلى أن هناك قضايا محورية تطرح نفسها حول كيفية تعامل أوروبا مع عدم احترام إسرائيل لطلبات محكمة العدل الدولية، وما إذا كانت ستؤيد قرارات المحكمة الجنائية الدولية ضد مسؤولين إسرائيليين في المستقبل.
ومن ناحية التأثير على إسرائيل، حذر مصطفى من أن إستراتيجية العزلة التي يتبعها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو المطلوب لدى المحكمة الجنائية الدولية قد تؤدي إلى انهيار إسرائيل اقتصاديا واجتماعيا وأمنيا، نظرا لأن إسرائيل لا تستطيع البقاء دون تواصلها مع العالم.
وفي المقابل، تشير التطورات الداخلية إلى بوادر تحرك في إسرائيل نفسها، حيث بدأت القطاعات المتضررة، بما في ذلك القطاع الأكاديمي والفني والصناعي، تتحرك وتوجه نقدا غير مباشر للحكومة الإسرائيلية.
ورغم أن هذا التحرك لم يؤثر على الحكومة حتى الآن بشكل فعال، فإنه يشير إلى إمكانية تنامي الضغوط الداخلية مع تزايد العزلة الدولية وتفاقم التكلفة الاقتصادية للسياسات الحالية.
0 تعليق