رواية "الحرّاني" تعيد إحياء مدينة حرّان بجدلها الفلسفي والديني في العصر العباسي - الأول نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

انقر هنا للمشاركة على وسائل التواصل الاجتماعي

share2

عن دار رياض الريس صدر حديثا العمل الروائي الأول للشاعر والكاتب السوري السويدي خلف علي الخلف بعنوان "الحرّاني". رواية واسعة الأفق، مؤسَّسة على أكثر من 300 مرجع بالعربية والإنجليزية ولغات أخرى، تمزج بين البحث التاريخي المتعمّق والبناء الروائي الفني، وتستعيد صورة مدينة حرّان (جنوب أورفا التركية حاليا) في القرن الـ9 الميلادي بوصفها ملتقى للفلسفة والعلوم والأديان.

تنطلق الرواية من مشهد زيارة الخليفة المأمون إلى حرّان أثناء حملته الأخيرة على الروم، حين التقى بأعيانها ورئيسهم قرّة بن مروان. وشكل ​اللقاء لحظة فارقة للجماعة الحرّانية التي واجهت اتهامات جيرانها السريان بأنها جماعة وثنية تعبد النجوم، فوجدت نفسها مضطرة للتأكيد على أنها على "ملة إبراهيم". ومن هذه اللحظة يتشعب السرد ليعكس جدلا دينيا وفلسفيا متعدد الأصوات في قلب الخلافة العباسية.

تنبع فكرة الرواية من الرغبة في إحياء سيرة الجماعة الحرّانية وإبراز دورها في الفلسفة والعلوم والدين في قلب الخلافة العباسية لأن تاريخ المدينة والجماعة التي تسمت باسمها اتسم دائما بالغموض وتضارب المصادر.

وتستند رواية "الحرّاني" إلى بحث تاريخي موسّع في مصادر عربية وسريانية وعبرية ويونانية وبيزنطية عن أصل الجماعة الحرّانية وطبيعة عقائدها، وهذا ما قاربناه سابقا بكتاب بحثي أنثربولوجي بعنوان "الحرّانيون السومريون.. في أصول ومعتقدات العشائر الزراعية في الجزيرة والفرات" الذي طرحنا فيه نظريات جديدة فيما يخص أصول السكان وعقيدتهم.

يوثّق المؤلف تفاصيل الحياة اليومية من أسواق ومآكل وعمارة وأزياء وموسيقى وطقوس، لتتحول الرواية إلى لوحة حيّة للقرن التاسع الميلادي
يوثّق المؤلف تفاصيل الحياة اليومية من أسواق ومآكل وعمارة وأزياء وموسيقى وطقوس، لتتحول الرواية إلى لوحة حيّة للقرن التاسع الميلادي (مولدة بالذكاء الاصطناعي/الجزيرة)

حرّان.. قرن من الفلسفة والعقيدة

أما الرواية فهي تقدم حرّان والجماعة الحرّانية عبر نحو قرن من الزمان في ظل الدولة العباسية، ودورها وارتباطها بحواضر العالم قديما وحديثا، شخصياتها تتوزع بين التاريخي والمتخيَّل، أبرزهم ثابت بن قُرّة الفيلسوف والعالم، ووالده قرّة بن مروان، إلى جانب شخصيات روائية مثل الزهرة مدرسة الفلسفة المثقفة والحزينة، والكاهن الكريتي جورجيو المتسائل عن سر الوجود، وجابر بن سنان، والبتاني عالم الفلك الأشهر، وسنان بن ثابت الذي يورث إرث والده في الخاتمة.

إعلان

وتبرز شخصية ثابت بن قُرّة الحرّاني رمزا لجهود المدينة في التوفيق بين العلم والعقيدة، قبل أن يرحل إلى الرقة ويؤسس فيها مدرسة الفلسفة والفلك ومنها إلى بغداد. كما يضيء النص على عائلات بارزة كان لها أثر في الثقافة العربية، منها آل قُرّة الذين أنجبوا أجيالا من العلماء والفلاسفة، وآل هلال الذين أسلم معظمهم وكان منهم اللغوي الكبير أبو إسحاق بن هلال الصابئ، وآل حيّان الذين خرج منهم جابر بن حيّان "أبو الكيمياء" ومحمد بن سنان البتّاني عالم الفلك الشهير.

الرواية ترسم بانوراما واسعة للعالم آنذاك، متنقّلة بين حرّان والرقة وقرطبة وغرناطة وملقا والإسكندرية التي تكشف عن دولة الأندلسيين الغامضة، وأثينا في أفولها، والقسطنطينية، وكريت التي أقام فيها الأندلسيون إمارة مستقلة امتدت قرنا ونصف قرن، وصولا إلى صقلية حيث نشطت مدرسة فيثاغورس. وفي كل هذه المحطات يوثّق المؤلف تفاصيل الحياة اليومية من أسواق ومآكل وعمارة وأزياء وموسيقى وطقوس، لتتحول الرواية إلى لوحة حيّة للقرن التاسع الميلادي.

كما تبرز الرواية العقيدة الحرّانية بطقوسها وشرائعها وعباداتها، مقدمة تعريفا عمليا بالحنيفية الواردة في النصوص الإسلامية، ومظهرة أجواء التسامح الديني في العصر العباسي حيث شارك المسلمون والمسيحيون واليهود والحرّانيون في دار الحكمة، مركز الإشعاع العلمي والثقافي. ويظهر في السرد دينيسيوس التلمحري، بطريرك السريان اليعاقبة، وعلاقاته بالمأمون والمعتصم، مدعومة بأسانيد دقيقة.

 

رواية تعيد للتاريخ صوته

وأثارت الرواية منذ قراءاتها الأولى نقاشا تاريخيا، إذ كتب المترجم المصري خالد رؤوف أنها من أمتع ما قرأ منذ سنوات، فهي جهد بحثي عظيم وسرد سلس يثير تساؤلات لا تفارق القارئ. ورأى الشاعر والروائي السوري عيسى الشيخ حسن أنها عمل توثيقي يعيد قراءة تاريخ شعب مسالم محبّ للعلوم والفنون، في حين أشار الناقد والروائي السعودي حامد بن عقل إلى أنها تسد فراغا في المكتبة العربية وتقدّم رحلة سردية ممتعة وعميقة.

واعتبر المخرج السوري غطفان غنوم أن الرواية أعادت إليه الثقة بالأدب الذي يشتاقه ويحبّه، في حين وصفها الشاعر العراقي سعد الياسري بأنها سفر في التراث والتاريخ والأزياء والعمارة والعقائد، فهي عمل مختلف ومتخم بالتفاصيل.

بهذا الإصدار يفتتح خلف علي الخلف مشروعه الروائي التاريخي، مؤكدا أن السرد قادر على إحياء مدن وأفكار غيّبتها السرديات السائدة، وأن العودة إلى الماضي سبيل لفهم الحاضر وصراعاته. ويرى المؤلف أن الكتابة الروائية التاريخية أفق يجمع بين المعرفة التاريخية الدقيقة والسرد والممتع والمتمرس، لإعادة بناء الذاكرة الثقافية خالية من التزييف والتحامل والتحيز الإيديولوجي، وكشف ما غُيّب من أدوار في مسيرة الحضارة.

خلف علي الخلف من مواليد الرقة في الجزيرة الفراتية 1969، يحمل الجنسية السويدية، وتنحدر أصول عائلته من حرّان. يحمل ماجستير في فلسفة الصحافة، وله 9 دواوين شعرية و3 مسرحيات مونودرامية أبرزها "گلگامش بحذاء رياضي" الفائزة بجائزة الفجيرة الدولية للمونودراما، إلى جانب كتب ودراسات بالعربية والإنجليزية. وقد ترجمت بعض أعماله إلى لغات عديدة منها الإنجليزية والألمانية والإسبانية والسويدية.

إعلان

0 تعليق