"الإمام" لباسمة التكروري.. رواية تتنفّس تاريخ فلسطين! - الأول نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

 

كتبت بديعة زيدان:

 

تُعد رواية "الإمام"، للكاتبة الفلسطينية باسمة التكروري، رحلة سردية عميقة تستعرض تاريخ فلسطين في القرن العشرين من خلال قصة عائلة نابلسية، وتحديداً شخصية "علي"، حيث تتداخل في الرواية الحكايات الشخصية مع الأحداث التاريخية الكبرى، لتقدم صورة حية عن التحولات الاجتماعية والسياسية التي شهدتها البلاد.
تبدأ الحكاية في نابلس العام 1920، لتتتبع مسيرة علي منذ طفولته وحتى أواخر أربعينيات القرن الماضي، مروراً بفترة الانتداب البريطاني، وأحداثها المحورية كـ"زلزال 1927"، و"ثورة 1936"، وصولاً إلى "النكبة" في العام 1948.
يمثل علي جيلاً قاوم الاحتلال والتقاليد الاجتماعية على حد سواء.. تبدأ رحلته كـ"صبي مدلل" و"غريب في بيت لا يشبهه فيه أحد"، لكنه يتحول تدريجياً إلى "الإمام" الذي يجد مكانه في خدمة مجتمعه، بحيث يرمز إلى روح المقاومة الداخلية التي لا تستسلم، رغم الخسائر المتتالية.
ومن بين الشخصيات المحورية في الرواية "سلوى الدجاني"، وتُجسّد المرأة الفلسطينية المقاومة، التي لم تكتفِ بالانتظار، فهي فتاة عصرية "تتقزز من كفيها، تقززت من شفتيها، تقززت من جسدها كله، من ذكرى حضنه"، لكنها أيضاً امرأة وفية تضع حياتها على المحك من أجل حبيبها، لترمز إلى القوة الداخلية والقدرة على تجاوز الخذلان، وتُظهر أن الحب والمقاومة وجهان لعملة واحدة.
ويلتقي قارئ "الإمام" بشخصية "محمد"، الأخ غير الشقيق لعلي، الذي يعكس حالة التنافس على المال والسلطة، والشعور بالنقص الذي يُحوله إلى حقد، فنراه يظهر في البداية كشخصية تسعى لفرض سيطرتها على أخيه، ومن ثم تتطور شخصيته لتصبح "ثعبان الحسد" الذي لا يتورع عن الخيانة.
أما "فاطمة"، والدة علي ومحمد، فهي رمز الأمومة الفلسطينية الحنونة والمُضحية، التي تحاول حماية أبنائها من صراعات الكبار، لكنها في النهاية تنهار حزناً على انقسام عائلتها.
ويتصاعد السرد بشكل تدريجي من خلال الأحداث المحورية في حياة "علي"، مثل صراعه مع أخيه غير الشقيق "محمد"، وهروبه الأول إلى يافا، ثم رحلته إلى القاهرة للدراسة، وتجربته القاسية في الحرب العالمية الثانية، وعودته إلى فلسطين ليجدها على حافة الانهيار، فالرواية نجحت في ربط مصير الفرد بمصير الوطن، فكل خيبة أمل شخصية لعلي، مثل فقده لوالدته "فاطمة"، أو حبّه "سلوى"، تتوازى مع خسارة أكبر على المستوى الوطني.
الرواية، الصادرة عن منشورات النهضة العربية في بيروت، وبطبعة فلسطينية عن دار طباق للنشر، تتنقل بين مدن فلسطينية عدة مثل: نابلس، ويافا، والقدس، علاوة على القاهرة، ولكل منها دلالته الخاصة، فنابلس ترمز إلى الماضي والعائلة، فيما تشير يافا إلى المقاومة والعمل، أما القاهرة فهي رمز المنفى والغربة الفكرية، في المقابل، تبرز القدس كمركز الوجود، الذي تتجسد فيها كل التناقضات.
أما تنقّل الرواية بين فترتين زمنيتين رئيسيتين: مطلع القرن العشرين ومنتصفه، فلا يمثل مجرد إطار زمني، بل هو صراع بين فترتين تاريخيتين لهما دلالاتهما الخاصة، فمطلع القرن العشرين (فترة الانتداب)، تمثل زمن التأسيس والصراع الهادئ، أما منتصف القرن وما بعده، وتحديداً فترة النكبة وما تلاها، فتُشكل ذروة المأساة، حيث يتحوّل الزمان من تاريخ إلى ذاكرة، ومن وجود إلى غياب.
وتطرح الرواية مضامين متعددة وعميقة، من بينها خيانة النخبة، حيث تُظهر انقسام المجتمع الفلسطيني تجاه الاحتلال، بين من اختاروا المقاومة، ومن رأوا في التعاون مع المحتل وسيلة للبقاء، فيما تشكل جدلية الذاكرة والنسيان محوراً من بين محاور مضامينها، فالرواية تشير إلى أن الذاكرة الفلسطينية ليست مجرد أحداث، بل شعور يُورّث.. تقول الراوية: "علي النابلسي وسلوى الدجاني بطلا هذه الرواية، شخصيتان متخيلتان، لكننا نحمل قصتهما في شيفرتنا الوراثية، كلما ولدنا في القدس"، كما تعكس الرواية فكرة أن النسيان ليس خياراً، فكل مكان وحدث يظل يطارد الشخصيات، فتقول سلوى: "كل زقاق يذكرها به، كل زاوية، كل مقهى، كل يد مدت لشراء تذكرة سينما".
وتتداخل في الرواية ثيمة الهوية بشكل معقد، فعلي يُجبر على خوض رحلة بحث عن ذاته.. في البداية، هو مجرد "ابن العائلة الغنية"، لكنه يتخلص تدريجيّاً من هذه الهوية ليُصبح "الإمام".. يتغير اسمه مرات عديدة، ما يعكس تحولاته الداخلية، وهذا البحث عن الهوية لا يقتصر عليه، بل يمتد ليشمل "سلوى" التي تُحاول أن تجد مكانها في مجتمع يفرض عليها قيوداً عدّة، كما أن شخصيات أخرى مثل "محمد" تُحاول بناء هويتها على النقيض من هوية "علي"، بالسعي وراء الثروة والسلطة، فـ"الإمام" تُشير إلى أن الهوية الفلسطينية ليست ثابتة، بل دائمة التكوين والتشكل في خضم الأحداث التاريخية.
وتتميز الرواية بأسلوبها السردي الذي يمزج الواقعي بالسريالي، حيث لا تتردد في إدخال الأحلام والهلوسات داخل نسيج الأحداث، خاصة في اللحظات الحرجة، ما يجعل القارئ يعيش تجربة نفسية عميقة تتجاوز حدود الواقع المادي.
وتستخدم التكروري تقنية "الومضات" السردية التي تعيد القارئ إلى الماضي بشكل مفاجئ، ما يخلق روابط غير مرئية بين الأحداث.. يرى "علي" وهو يصارع الموت "صورة الوجوه المذعورة وأناساً يجرون بلا اتجاه"، ثم تعاوده "صور جنازير وعجلات من مركبات عسكرية من زمن بعيد... بعيد"، هذه الومضات لا تخدم الحبكة فحسب، بل تُشير إلى أن التاريخ ليس خطاً مستقيماً، بل مجموعة من اللحظات المكررة التي تتداخل في ذاكرة البطل.
كما أن اللغة غنية بالتشبيهات والاستعارات، وتُضفي على السرد طابعاً شعرياً، ما من شأنه أن يحوّل الأفكار المجردة إلى صور حية، فنراها تُشبّه المدينة بـ"عروس تحت ضوء القناديل"، وتصف الهرب بـ"الشبح الذي يسكن الطريق".
وتميّزت "الإمام" بقدرتها على تجسيد الذاكرة الفلسطينية بطريقة إنسانية وعاطفية، بعيداً عن الشعارات السياسية، لتُظهر أن المقاومة فعل وجودي، وأن الوطن ليس أرضاً فحسب، بل هو شعور أيضاً.

 

0 تعليق