إسطنبول- عرفت السياحة التركية العام الماضي طفرة لافتة تمثلت في الإقبال غير المسبوق من الزوار الصينيين، إذ تجاوز عددهم 409 آلاف سائح بزيادة قدرها 65.1% مقارنة بالعام السابق، لتصبح الصين أسرع الأسواق السياحية نموا نحو تركيا.
هذه القفزة جاءت مدفوعة بتعافي حركة السفر العالمية بعد الجائحة وتخفيف القيود على تنقل الصينيين، حيث كشفت بيانات وزارة الثقافة والسياحة التركية عن ارتفاع أعدادهم بنسبة 131% خلال الأشهر الأربعة الأولى من العام، وهو ما يعكس تعطشا متزايدا لدى الصينيين للسفر، ويضع بلادهم في صدارة الأسواق الصاعدة للسياحة التركية.

وقد عزز هذا الزخم حزمة من التفاهمات بين أنقرة وبكين، أبرزها مذكرة تعاون وُقعت عام 2023 لتطوير السياحة المتبادلة، أسفرت عن توسيع الرحلات الجوية المباشرة وتبسيط إجراءات التأشيرة.
ومع هذه التسهيلات، تحوّلت تركيا إلى وجهة مفضلة للسائح الصيني، ورسخت مكانتها كأحد أبرز المقاصد العالمية الصاعدة في نظر السوق الصينية.
عوامل الجذب
تتقاطع عدة أسباب وراء اندفاع السياح الصينيين إلى إسطنبول وأنطاليا وكابادوكيا، ففي البعد الاقتصادي، ساهم تراجع قيمة الليرة التركية خلال الأعوام الأخيرة في جعل تكاليف السفر والتسوق أكثر ملاءمة للزائر الصيني.
وهذا ما جعل تركيا وجهة تقدم قيمة عالية مقابل التكلفة، خصوصا في قطاع التسوق الفاخر حيث باتت المنتجات التركية أرخص مقارنة بالأسواق المنافسة.

أما البعد الثقافي، فيحمل جاذبية خاصة للصينيين، إذ تمثل تركيا مزيجا فريدا بين الأصالة الشرقية والنَّفَس الأوروبي، بما يعكس موقعها الجغرافي وتاريخها كملتقى حضارات.
إعلان
هذه الخصوصية الثقافية تمنح السائح الصيني تجربة مختلفة عن الوجهات الآسيوية التقليدية، وتغذي فضوله لاكتشاف أماكن جديدة.
كما لعبت الثقافة الشعبية التركية، عبر المسلسلات الدرامية واسعة الانتشار والمحتوى البصري على المنصات الرقمية، دورا بارزا في تكوين صورة ذهنية جاذبة عن تركيا.
ويؤكد خبراء السياحة أن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت المحرك الأول لاختيارات الجيل الجديد من الصينيين، إذ يسعى كثير منهم لزيارة المواقع التي يشاهدونها في الصور والفيديوهات.
وقد دفع هذا الواقع السلطات التركية إلى تكثيف حضورها على المنصات الصينية مثل "ويبو" وتطبيق "رد"، عبر حملات ترويجية مصممة لعرض سحر الوِجهات التركية مباشرة أمام الجمهور الصيني.
الوجهات المفضلة
رغم أن إسطنبول ما زالت تتصدر قائمة اختيارات السياح الصينيين بما تحتضنه من معالم بارزة مثل آيا صوفيا والمسجد الأزرق وقصر طوب قابي، فإن مدنا ومناطق أخرى أخذت تحجز لنفسها مكانا متقدما على الخريطة السياحية للصينيين في تركيا.

وتأتي كابادوكيا في الصدارة بفضل طبيعتها الجيولوجية الفريدة وتشكيلاتها الصخرية المعروفة بـ"مداخن الجنيات"، فضلا عن رحلات المناطيد عند شروق الشمس التي تحوّلت إلى رمز للرومانسية التركية في أعين الصينيين.
هذه المنطقة التي تجمع بين التاريخ والأسطورة والطبيعة باتت، بحسب السفير الصيني في أنقرة جيانغ شيوي بين، "وجهة لا غنى عنها" للباحثين عن تجارب غير تقليدية.
كابادوكيا علامة فارقة
المشهد الحالم للمناطيد وهي تحلق فوق الوديان والقرى الصخرية جعل كابادوكيا علامة فارقة في ذاكرة الزوار، في حين جاءت باموق قلعة (قلعة القطن) في دنيزلي لتقدم تجربة طبيعية أخرى لا تقل سحرا، بمدرجاتها البيضاء وينابيعها الحارة التي تبهر السياح الصينيين كإحدى عجائب الطبيعة.

كذلك تبرز مدينة أفسس الأثرية ضمن برامج الرحلات، حيث تمنح أطلالها الرومانية والإغريقية الفرصة لمعانقة التاريخ عن قرب.
أما على السواحل، فقد بدأت مدن مثل أنطاليا وإزمير تستقطب شرائح متزايدة من الزوار الصينيين الساعين إلى الاسترخاء على شواطئ المتوسط، والاستمتاع بالشمس.
إلى جانب اكتشاف الكنوز الأثرية المنتشرة على امتداد الساحل الغربي. وهكذا تتنوع الوجهات التي يقصدها السائح الصيني بين عمق التاريخ وسحر الطبيعة ومتعة البحر، ما يجعل التجربة التركية أكثر ثراءً وتكاملا.
مواقع سياحية جديدة
ولم تعد الخريطة السياحية للصينيين في تركيا مقتصرة على الوجهات التقليدية فحسب، بل اتسعت في السنوات الأخيرة لتشمل مواقع جديدة تسعى أنقرة جاهدة إلى إبرازها في السوق الصينية.
ويبرز في هذا السياق ساحل البحر الأسود شمال البلاد، الذي يتميز بخضرته الكثيفة وخصوصيته الثقافية.

وقد كثفت وكالة الترويج والتطوير السياحي التركية، بالتعاون مع شركات السفر المحلية، جهودها لتعريف السياح الصينيين بجماليات هذه المنطقة.
إعلان
ويأتي ذلك من خلال تنظيم رحلات تعريفية لوكلاء السياحة الصينيين إلى مدن مثل طرابزون، لعرض ما تزخر به من طبيعة آسرة، ومواقع تاريخية، وتقاليد مطبخية متفردة.
ويرى خبراء القطاع أن ما تقدمه مطاعم ومقاهي المدن المطلة على البحر الأسود، إلى جانب ما تحتويه من مواقع أثرية رومانية، يشكّل قيمة مضافة لتجربة السائح الصيني الباحث عن الجديد والمختلف.
ولم تغفل تركيا كذلك مناطقها الجنوبية الشرقية الغنية بثقافتها، حيث شرعت مدينة غازي عنتاب -المدرجة ضمن شبكة اليونسكو للمدن المبدعة في مجال فنون الطبخ- في الترويج لمطبخها التراثي كوسيلة لجذب الزوار الصينيين من عشاق المذاقات الأصيلة.
استقطاب السائح الصيني
في سعيها لمضاعفة أعداد الزوار القادمين من الصين، كثفت تركيا حملاتها الترويجية ووسعت تعاونها مع المؤسسات الصينية.
ففي أغسطس/آب الماضي، نظمت وكالة الترويج السياحي التركية بالتعاون مع الخطوط الجوية التركية برنامجا خاصا استضافت خلاله 29 من أبرز المدونين والمؤثرين الصينيين، حيث جالوا بين إسطنبول وكابادوكيا، وزاروا معالم تاريخية بارزة من آيا صوفيا إلى قصر طوب قابي، قبل أن يخوضوا تجربة المنطاد والفنادق الكهفية في كابادوكيا.

وقد نقل هؤلاء المؤثرون تفاصيل رحلتهم عبر منصات التواصل الصينية، لتلقى منشوراتهم تفاعلا واسعا بين ملايين المتابعين، في رهان تركي على قوة الصورة الرقمية في جذب شرائح أوسع من الجيل الشاب.
الربط الجوي
وبالتوازي مع الجهود الترويجية، جاء تعزيز الربط الجوي كخطوة محورية، إذ أعلنت الخطوط التركية رفع عدد الرحلات الأسبوعية بين البلدين إلى 31 رحلة.
وسيتم توزيع الرحلات على بكين وشنغهاي وغوانجو ابتداء من نهاية أكتوبر/تشرين الأول المقبل، وذلك بموجب اتفاقية جديدة بين سلطات الطيران المدني في أنقرة وبكين هي الأوسع منذ أكثر من 15 عاما.

تبسيط إجراءات الحصول على التأشيرة السياحية، بحيث باتت تُنجز في غضون أسبوع تقريبا، الأمر الذي يسهل وصول الصينيين إلى تركيا ويشجع على زيادة تدفقهم.
ولم تقتصر المساعي على النقل والتأشيرات، بل شملت أيضا التعاون مع كبريات شركات السفر الصينية ومنصاتها الإلكترونية، بهدف ضمان حضور قوي للوجهات التركية في السوق الصينية.
كما أتاحت أنقرة خدمات الدفع عبر التطبيقات المالية الأكثر استخداما في الصين، لتسهيل معاملات الزوار وتعزيز إنفاقهم خلال الرحلة.
وبذلك تجمع تركيا بين الحملات الدعائية، والتسهيلات العملية، والشراكات الإستراتيجية لتقديم نفسها كوجهة عصرية وآمنة، قادرة على استقطاب أعداد أكبر من السائحين الصينيين في السنوات المقبلة.
زيادة متوقعة
تُجمع التقديرات على أن موجة الإقبال الصيني على تركيا مرشحة لمزيد من الارتفاع خلال العام المقبل، ففي معرض السياحة الدولي في شنغهاي في مايو/أيار الماضي، أعلن سينان سيرح تورك سفن، المدير العام بالإنابة لوكالة الترويج السياحي التركية، أن أنقرة وضعت هدفا طموحا يتمثل في جذب مليون سائح صيني سنويا خلال السنوات القليلة المقبلة.

وتوقع سينان سيرح أن يتحقق هذا الرقم في غضون 3 سنوات إذا استمرت وتيرة النمو الحالية.
ويبدو أن الهدف واقعي وقابل للتحقق، خاصة أن تركيا استقبلت خلال الـ11 شهرا الأولى من عام 2024 نحو 381 ألف سائح صيني بزيادة تقارب 71% عن العام السابق.
ومع تضاعف الرحلات الجوية المباشرة، وتكثيف الحملات الترويجية، فإن تسجيل رقم قياسي جديد بات في حكم المؤكد.
مكاسب الحضور الصيني
لكن المكاسب المنتظرة لا تقتصر على العوائد الاقتصادية فقط؛ فتعاظم الحضور السياحي الصيني يعزز من التواصل الثقافي والحضاري بين البلدين.

كما يفتح المجال أمام شراكات أوسع في التجارة والاستثمار، بما في ذلك التعاون في إطار مبادرة الحزام والطريق التي ترى تركيا نفسها طرفا طبيعيا فيها.
إعلان
وهكذا، يعيد صعود السوق الصينية تشكيل خريطة السياحة التركية، ويدفع أنقرة إلى موقع متقدم ضمن الوِجهات العالمية الصاعدة، مدعومة بمنتج سياحي متنوع وإستراتيجية مدروسة تستهدف أن تكون تركيا بين أكبر 3 وجهات سياحية عالميا في السنوات المقبلة.
0 تعليق