في 24 يوليو/تموز 2025، أصدر الرئيس الأميركي دونالد ترامب أمرًا تنفيذيًا مثيرًا للجدل تحت عنوان "إنهاء الجريمة والفوضى في الشوارع الأميركية".
يعتمد هذا القرار على إعادة تفعيل الاحتجاز القسري للأشخاص الذين يعيشون بلا مأوى، باعتبارهم مدمنين أو مرضى نفسيين، ويطرح تساؤلات عميقة حول العلاقة بين السلطة والطب النفسي، وكيف يمكن أن يُسخّر هذا الأخير كأداة للضبط الاجتماعي، متجاهلًا الجذور الاجتماعية والاقتصادية للأزمات مثل الفقر وأزمة السكن والرعاية الصحية.
اقرأ أيضا
list of 2 items end of listوفي ظل هذا الواقع، يتم استخدام الخطاب الطبي لفرض العزل القسري على الأفراد وإخفاء "المختلفين" تحت ستار الطب، ما يعيد إلى الأذهان صورًا من عصور سابقة كان فيها المرض النفسي أداة لقمع المخالفين.
هذه التوظيف السياسي يذكّرنا بالأفكار التي طرحها الطبيب والمفكر المجري توماس ساس، الذي شكك في الأدوار السياسية والاجتماعية للطب النفسي. إذ وفي منتصف عشرينيات القرن الماضي، وبينما كان توماس الطفل يتجول مع والده في شوارع بودابست، لفت انتباهه مبنى ضخم ذو نوافذ مسيجة بالقضبان الحديدية.
سأل والده ببراءة عن هذا المبنى، فأجابه بأنه مصحة عقلية، ليعقب الطفل متسائلًا: "لماذا تشبه السجن؟". كان هذا السؤال، الذي بقي عالقًا في ذهنه دون إجابة واضحة، هو نقطة البداية لأفكاره التي ستُصبح حجر الأساس لواحدة من أكثر الحركات النقدية جذرية في الطب النفسي خلال القرن 20.
توماس ساس، الذي وُلد لعائلة يهودية عام 1920، أصبح واحدًا من أبرز نقاد الطب النفسي، حيث نظر إلى المرض العقلي باعتباره مفهومًا زائفًا، واعتبره أداة للضبط الاجتماعي أكثر منه حقيقة طبية.
في هذا المقال، سنغوص في أفكار ساس التي هزت الأوساط الأكاديمية، وأثارت نقاشًا دائمًا حول دور الطب النفسي في المجتمع وحدوده، بدءًا من فكرته الجذرية عن أسطورة المرض العقلي ووصولًا إلى نقده الجذري للطب النفسي كأداة تابعة للسلطة السياسية.

نشأة في ظلال القمع
وُلد توماس ستيفن ساس (Thomas Szasz) يوم 15 أبريل/نيسان 1920 في العاصمة المجرية بودابست لعائلة يهودية من الطبقة الوسطى. نشأ في وقت كان يشهد فيه العالم تصاعدًا خطيرًا في النزعات القومية، وارتفاعًا في وتيرة العنف والإقصاء.
إعلان
ومع اقتراب نذر الحرب العالمية الثانية، قررت عائلته مغادرة وطنه الأم، حيث هاجر إلى الولايات المتحدة الأميركية وهو في سن 18. هذا الانتقال لم يكن مجرد تغيير جغرافي، بل كان انتقالًا من واقع سياسي مشحون إلى أرض الفرص التي كانت تحكمها أنماط أخرى من التوترات الاجتماعية والسياسية.
كان لهذه التجربة، التي شكلت جزءًا كبيرًا من طفولته وصباه، تأثير عميق في بناء شخصيته وأفكاره النقدية، حيث شكلت لديه حسًا مفرطًا بالإقصاء والظلم الاجتماعي.
استقر ساس في مدينة سينسيناتي بولاية أوهايو، حيث درس الفيزياء في جامعة سينسيناتي، وتخرج بامتياز عام 1941. لكن شيئًا ما كان يفتقر إليه في هذا المجال العلمي الجاف، فسرعان ما قرر أن يتحول لدراسة الطب، رغم أنه لم يكن قد فقد الأمل بعد في الفيزياء. تقدم إلى أكثر من 20 كلية طب، إلا أن طلبه قوبل بالرفض المستمر.
هذه المرة، كان الرفض ليس فقط أكاديميًا بل اجتماعيًا أيضًا، إذ واجه تجربة مريرة مع الإقصاء بسبب هويته الثقافية والدينية. لكن، في نهاية المطاف، تم قبوله في كلية الطب بجامعة سينسيناتي، حيث تخرج في عام 1944 بتفوق ليكون على رأس دفعته، وليقف على أعتاب مهنة جديدة، ولكنه كان قد بدأ في تأسيس فكرة جديدة حول ما يعنيه أن تكون مختلفًا.
أسهمت هذه الخلفية في تشكيله كأحد أبرز المدافعين عن الحرية الفردية في القرن 20، ما دفعه ليكون أحد أشرس نقاد الطب النفسي.
بعد تخرجه، بدأ ساس العمل كمحلل نفسي في "معهد شيكاغو" للتحليل النفسي، حيث استمر في العمل حتى عام 1956، ثم انتقل إلى جامعة ولاية نيويورك ليشغل منصب أستاذ الطب النفسي في "مركز أب ستيت الطبي". رغم أنه بدا في الظاهر أنه استقر مهنيًا، فقد كان داخله يموج بالشعور بالشكوك والتوتر، إذ كان يدرس الطب النفسي دون أن يتمكن من الإفصاح علنًا عن آرائه المعارضة لهذا المجال.
في وقت لاحق، شبّه ساس هذه التجربة بتجربة ملحد يدرس اللاهوت، مما يعكس مدى الصراع الداخلي الذي كان يعيشه بين مهنته ومعتقداته الفكرية. ورغم هذه التوترات، ظل ساس متمسكًا بمبادئه الأساسية، حيث كان يرفض علاج المرضى الذين يتم احتجازهم قسريًا، متحديًا بذلك النظام الطبي السائد الذي كان يُسخّر الطب النفسي كأداة للسيطرة والتحكم.

تحطيم الأسطورة.. المرض العقلي استعارة لغوية
جاءت اللحظة الحاسمة التي أطلق فيها توماس ساس طلقته الأولى في معركة فكرية استمرت حتى آخر يوم في حياته، عبر مقال نشرته مجلة "أميركان سايكولوجيست" (American Psychologist) في عام 1960.
كان هذا المقال بمثابة البداية الفكرية لكتابه الأشهر "أسطورة المرض العقلي.. أسس نظرية السلوك الشخصي" الذي نُشر في العام التالي مباشرة. هذا الكتاب كان بمثابة انطلاقة لحركة فكرية جذرية ضد الطب النفسي، حيث اعتبر ساس أن مفهوم "المرض العقلي" ليس سوى مجرد استعارة.
في هذا السياق، قال ساس عبارته الشهيرة: "المرض العقلي أسطورة وظيفتُها إخفاء مرارة الصراعات الأخلاقية في العلاقات الإنسانية وجعلها أكثر قبولًا".
إعلان
هذه الكلمات كانت بمثابة قطيعة معرفية مع المفهوم السائد للاضطرابات العقلية، الذي كان يُنظر إليه كحقيقة بيولوجية، حيث اعتبر ساس أن الطب النفسي في جوهره أداة للضبط الاجتماعي أكثر من كونه حقلًا معرفيًا منضبطًا. بذلك، أزاح ساس الستار عما اعتبره خرافة الطب النفسي، وأوضح أن المرض العقلي ليس أكثر من تصور اجتماعي مهيمن.
بحسب ساس، فإن المرض بمعناه الطبي هو خلل بيولوجي يمكن تحديده وقياسه في الأعضاء المادية للجسد، مثل القلب والرئة. ولكن لا يوجد عضو مادي يسمى "العقل"، وبالتالي فإن مرض العقل ليس له وجود بيولوجي.
العقل -حسب ساس- هو مجرد مفهوم رمزي، لا يمكن ملاحظته أو قياسه بشكل مباشر، ومن هنا تأتي الاستعارة التي نستخدمها عندما نقول إن شخصًا حزينًا "كسير القلب"، فهذه استعارة مجازية للتعبير عن معاناته النفسية، ولا تعني أن قلبه مريض. وعليه، فإن ما يُسمى المرض العقلي ليس إلا استعارة لغوية، لا يمكن أن يُعامل بنفس الطريقة التي يُعامل بها المرض الجسدي.
وسّع ساس تشبيهه ليضع الطب النفسي السائد خلال تلك الفترة في نفس فئة العلوم الزائفة، مثل الخيمياء والتنجيم، معتبراً أن أي محاولة مستقبلية لإيجاد دلائل بيولوجية تشير إلى خلل في الدماغ يسبب الاضطرابات العقلية؛ ستؤدي إلى نقل تلك الاضطرابات إلى نطاق أمراض الدماغ أو أمراض الأعصاب، مما يعني أن الطب النفسي لم يكن ضروريًا في البداية، وأنه كان مجرد أداة اجتماعية لتفسير سلوكيات غير مرغوب فيها.
ورغم إنكاره للمرض العقلي بمفهومه السائد وقتها، فإن توماس ساس لم ينكر المعاناة النفسية في حد ذاتها، لكنه عدّها تعبيرا عن صراعات اجتماعية وأخلاقية أو مشكلات حياتية لا تحتاج للتعامل الطبي.
من محاكم التفتيش إلى المصحات النفسية
" frameborder="0">
لم تتوقف انتقادات ساس للطب النفسي عند تفكيك المفاهيم النظرية، وإنما امتدت إلى نقد المنظومة العلاجية، وتحديدا العلاج القسري والاحتجاز الإجباري، وكأن الطفل الذي توقف في وطنه الأم أمام أسوار المصحة وتساءل عن وجه الشبه بينها وبين السجن، عاد مجددا ليطرح أسئلته.
في كتابه "صناعة الجنون.. دراسة مقارنة بين محاكم التفتيش وحركة الصحة العقلية" (The Manufacture of Madness: A Comparative Study of the Inquisition and the Mental Health Movement) المنشور عام 1970، قارن ساس بين مؤسسات الصحة العقلية ومحاكم التفتيش التي أدانت المختلفين في العصور الوسطى، معتبرا أن مؤسسات الصحة العقلية بمثابة سلطة طبية بديلة للسلطة الدينية أو الاجتماعية، ووصف الطب النفسي المعاصر بأنه بديل علماني للدور التقليدي الذي لعبته الأديان في حياة البشر، يقدّم لهم وعدا بالخلاص الدنيوي، وكلاهما -وفقا لوجهة نظره- يفتقر إلى الموضوعية.
اعتبر توماس ساس وصم الأفراد بالجنون أو المرض العقلي وسيلةً للسيطرة على الأشخاص الذين يرتكبون تصرفات مختلفة أو غير مقبولة اجتماعيا، من أجل عزلهم وتجريدهم من الحرية الشخصية، ووضعهم تحت سيطرة المؤسسات الطبية التي تتحول في هذه الحالة إلى أداة في يد السلطة الاجتماعية والنظام، حيث يعزل الأفراد تحت ستار الرعاية الصحية التي تحوّل المشكلات الإنسانية إلى أعراض صحية، بدلا من التعامل مع أسبابها الجذرية، وهو ما يكرس مصالح النظام الاجتماعي السائد.
ورغم موقفه هذا فقد نفى ساس معاداته للعلاج النفسي الطوعي، وأكد على رفضه التام لكل أشكال العلاج النفسي القسري، في حين مارس العلاج المعرفي والسلوكي لكن فقط للبالغين وبموافقتهم.
من أروقة الأكاديمية إلى التأثير على الرأي العام
لطالما حمل توماس ساس في ذاكرته صورة تمثال لرجل يقف وحيدا في قلب بودابست، محاطا بتماثيل صغيرة لأطفال رضع، وامرأة تحدق إليه بإشفاق. التمثال للطبيب إغناز سيمولفيس (Ignaz Semmelweis)، رجل آخر اجترأ على تحدي المؤسسة الطبية فاتهموه بالجنون.
إعلان
" frameborder="0">
لاحظ سيمولفيس في منتصف القرن 19 أثناء عمله بمستشفى فيينا العام؛ ارتفاع نسبة الوفيات في الأمهات الجدد بعد الإصابة بحمى النفاس، وعبر الملاحظة الدقيقة ربط هذه الحوادث بإجراء الأطباء تشريحا للجثث قبل إجرائهم عمليات التوليد، وهو ما دعاه إلى إلزام الأطباء بغسل أيديهم قبل عمليات التوليد بمحلول معقم، وكانت النتيجة انخفاض حادّ في نسبة وفيات الأمهات.
سبق هذا الإجراء اكتشاف الجراثيم بسنوات طويلة، وهو ما جعله يقابل بالرفض والاستهزاء من قبل المؤسسة الطبية، حيث اعتبره الأطباء بمثابة إهانة لهم. طُرد سيمولفيس من المستشفى، وتعرض لحملة واسعة من السخرية والتشويه، وانتهت قصته المأساوية باتهامه بالجنون واحتجازه قسريا في مصحة عقلية حيث لاقى حتفه.
لقد كبر توماس ساس حاملا تلك القصة في وعيه، مدركا لما قد يجابه صاحب الرؤية المغايرة من تعنت، وكيف يمكن أن يتحول العلم إلى كهنوت يصمّ أذنه عن أي رأي مخالف، وكيف يستغل ادعاء المرض العقلي لقمع كل صوت مختلف، حتى لو كان صوتا أنقذ آلاف الأمهات من الموت.
ومثل سيمولفيس، واجه ساس أيضًا اتهامات بالاضطراب العقلي من زملائه، فقد وصفه المعالج ألبرت إليس بأنه "يعاني من جنون العظمة"، ورفض أحد المحاورين مناظرته في ندوة بأستراليا بحجة أنه "مصاب بفصام بارانويدي".
أدرك ساس مبكرا أنه إذا أراد أن يُحدث فرقا في العالم فعليه أن يخرج بنضاله الأكاديمي إلى مساحات أرحب من صفحات الكتب المتخصصة وأروقة المؤسسات الأكاديمية، وهو ما دفعه لنشر عشرات المقالات في الصحف الجماهيرية، والمشاركة في مختلف الحملات القانونية الساعية لتضييق معايير العلاج النفسي القسري.
كما حذر من التوسع في الاستخدام القانوني لدفاع الجنون، أو عدم مسؤولية الأشخاص عن أفعالهم بسبب المرض العقلي، وأصر على أن الفرد يبقى مسؤولا عن أفعاله حتى في أشد لحظاته اضطرابا، وأن نزع هذه المسؤولية تحت ستار المرض العقلي هو انتهاك للكرامة والحرية الإنسانية.

كيف غيّر ساس وجه الطب النفسي الأميركي؟
لم تكن تساؤلات توماس ساس مجرد صرخات نظرية أطلقها في الفراغ، وإنما أسفرت عن تحولات حقيقية في تاريخ الصحة النفسية بالولايات المتحدة الأميركية.
ففي سبعينيات القرن 20، صدرت مجموعة من الأحكام القضائية التي قوّضت صلاحيات مؤسسات الطب النفسي، أبرزها: قضية "ليزارد ضد شميدت" عام 1972 التي قيّدت صلاحية السلطات في إيداع الأفراد قسريا في المصحات، وتبعتها قضية "دونالدسون ضد أوكنور" عام 1975 التي أقرت أن الاحتجاز النفسي لا يمكن أن يكون مشروعًا ما لم يكن الشخص يشكل تهديدًا فعليًا لنفسه أو للآخرين، ثم قضية "ريني" عام 1978 التي رسخت حق المرضى في رفض العلاج القسري.
وقد استندت هذه القرارات صراحة إلى فلسفة توماس ساس التي تُنكر وجود المرض العقلي باعتباره كيانًا طبيًا قابلاً للعلاج.
واليوم أصبحت الكثير من المبادئ التي نادى بها توماس ساس حقوقا أساسية للمرضى، وحل مفهوم العلاج المجتمعي خارج أسوار المصحات محل الأسلوب القديم في الكثير من الدول، وأصبح الوعي العام أكثر حساسية تجاه اللغة التي تصف المرضى، فلم تعد الكلمات التي تحمل صيغة الوصم بالجنون مستخدمة في السياقات الرسمية.
الطب النفسي يستعيد سلطته
رغم التراجع النسبي لنفوذ المصحات، فإن الطب النفسي لم يتراجع، بل أعاد بناء سلطته على أسس أكثر تماسكا عبر موجة معاكسة بدأت منذ ثمانينيات القرن 20 وركزت على الأسس البيولوجية والجينية للاضطرابات النفسية، خاصة مع تطور أدوات التصوير الدماغي وتقدم أبحاث الأعصاب والجينات، وهو ما تزامن مع ضخ شركات الأدوية مليارات الدولارات لتطوير وتسويق مضادات الاكتئاب والذهان والقلق بوصفها الحل العلمي للمعاناة.
" frameborder="0">
انعكس هذا التحول بوضوح على التطورات التي لحقت بالدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية (DSM)، الذي صدرت طبعته الأولى عن الجمعية الأميركية للطب النفسي في الخمسينيات.
وفي أوائل الثمانينيات، وبالتزامن مع تفكيك مستشفيات الصحة العقلية الحكومية الكبرى في عهد إدارة ريغان، وتراجع دور الدولة في الرعاية الصحية، وتدخل شركات التأمين الصحي الخاصة لسد الفراغ، توسعت تغطية التأمين الصحي، إذ كان الأوفر للشركات منح تغطية تأمينية أوسع لموظفيها بدلا من زيادة أجورهم.
وأرادت شركات التأمين توحيد معايير دفع المتطلبات المالية المتعلقة بالصحة العقلية وفق رموز تشخيصية محددة. وهكذا مع صدور الإصدار الثالث من الدليل التشخيصي والإخصائي للاضطرابات النفسية عام 1980، أعيدت صياغة الاضطرابات النفسية بمصطلحات أكثر تحديدا وقابلية للفوترة، مما اختزل المشكلات الإنسانية في رموز وأرقام.
إعلان
توسعت فئات التشخيص بشكل غير مسبوق، وأُدرجت اضطرابات جديدة لم تستند دائمًا إلى أدلة تجريبية كافية، وهو ما واجه العديد من الانتقادات، خاصة مع إصدار النسخة الخامسة من الدليل التشخيصي، والتي اتُّهمت بأنها تختزل التجربة الإنسانية في اختلالات كيميائية بالدماغ. كما برزت الطبيعة السياسية لبعض التصنيفات، حيث تنشأ بعض التشخيصات أو تُزال بحسب التوافق الاجتماعي والسياسي، دون وجود معيار علمي واضح.
فعلى سبيل المثال، صُنفت المثلية الجنسية سابقا باعتبارها اضطرابا نفسيا، ثم أزيلت في نسخة لاحقة، كما أن اعتماد الدليل الأساسي على المعايير الثقافية الغربية لا يراعي الاختلافات الثقافية، حيث إن بعض السلوكيات المقبولة في مجتمعات أخرى قد يُنظر إليها بوصفها اضطرابا في السياق الغربي.
من ناحية أخرى، أثيرت مخاوف بشأن تضارب المصالح داخل لجان إعداد الدليل، نظرًا لارتباط بعض المشاركين بشركات دوائية كبرى، وهو ما يثير المخاوف بشأن تأثير صناعة الأدوية على موضوعيته.
فعلى سبيل المثال وبحسب "Datamonitor" و"Biomedtracker"، ارتفع معدل استخدام مضادات الاكتئاب بين المراهقين والشباب بنسبة 64% منذ عام 2020، بينما شركة "فايزر" التي تصنع الدواءين الأشهر لعلاج الاكتئاب؛ هي الممولة لمقياس "PHQ9" الذي يستخدمه أطباء الرعاية الأولية لقياس الاكتئاب.
وهكذا، ورغم تجاوز الفصل بين المرض العقلي والعضوي الذي ارتكز عليه نقد توماس ساس، فقد ربط هذا التحولُ الطبَ النفسي بسلطة رأس المال الدوائي، في تطرف من نوع آخر.
طوق نجاة أم غرق؟
هل كانت أفكار توماس ساس طوق نجاة لمن عانوا من المؤسسات العلاجية، أم أنها أصبحت بمثابة ثقل مربوط في الكاحل ليشدهم في بحر من الإنكار يغرقون فيه دون صراخ؟
ورغم ما تحقق بفضل انتقادات ساس من إصلاحات في قوانين العلاج النفسي، فإن نقاده في المقابل جادلوا بأن أفكاره قد تؤدي إلى حرمان المرضى من الرعاية الطبية التي يحتاجونها، مما يزيد من معاناتهم، خاصة أن تركيزه على الحرية الفردية المطلقة يتجاهل الحالات التي يفقد فيها الأفراد قدرتهم على اتخاذ قرارات عقلانية، وهو ما يجعل التدخل الطبي أمرا ضروريا لحمايتهم وحماية المجتمع.
كما أنه يلقي العبء على كاهل الفرد تحت شعار الحرية، في حين أنه قد يكون عاجزا عن إدراك حاجته إلى المساعدة، خاصة أن بعض الأنظمة السياسية قد تستغل أفكاره لتبرير انسحاب الدولة من دعم الرعاية النفسية وتقليص الإنفاق الحكومي على المصحات العلاجية دون توفير بدائل، وهو ما قد أدى إلى تفاقم أزمة التشرد والسجون.
تعرضت آراء توماس ساس لعدد كبير من المراجعات النقدية على أسس علمية وفلسفية، خاصة مع كل التطورات التي شهدها الطب النفسي خلال العقود الأخيرة، والتي تؤكد على المصداقية العلمية للعديد من التشخيصات.
ومن بين أبرز الانتقادات اعتمادُه على تعريف بيولوجي صارم للمرض العقلي، يشترط وجود آفة عضوية أو خلل فسيولوجي واضح.
لكن كما يشير الرئيس الأسبق للكلية الملكية للأطباء النفسيين، روبرت إ. كيندل، فإن هذا المعيار لا يصمد حتى في الطب الجسدي، فحالات مثل الصداع النصفي لا ترتبط دائمًا بخلل عضوي محدد، لكنها تظل "مرضًا" بالمعنى السريري، وهو ما يجعل نفي توماس ساس للاضطراب العقلي قاصرا عن إدراك تعقيد التجربة النفسية التي لا تُختزل معاناتها في الآليات البيولوجية فقط.
من جهة أخرى، رأى أستاذ الطب النفسي وتاريخ الطب، إدوارد شورتر، أن نقد ساس موجّه بالأساس إلى الاتجاه التحليلي الذي هيمن على الطب النفسي في منتصف القرن 20، لكنه تراجع لاحقا مع التحولات البيولوجية الحديثة في التشخيص والعلاج، المعتمدة على علوم الأعصاب والجينات، مما يقوض أساس أطروحته.
ورغم ذلك، لم ينكر نقادُه الأهمية السياسية والأخلاقية للتساؤلات التي طرحها توماس ساس، ودورها في تعميق النقاش حول العلاقة بين السلطات السياسية والطبية، والدور الذي لعبه الطب النفسي كأداة للسيطرة الناعمة. من ناحية أخرى أبدى بعض المنتقدين مخاوفهم من استغلال أفكاره لصالح أجندات أخرى، مثل تقويض الرعاية الصحية وتبرير انسحاب الدولة من مسؤوليتها تجاه المرضى المحتاجين للدعم.
يمكن قراءة فلسفة توماس ساس في ضوء العلاقة بين الطب النفسي والمجتمع. ففي مجتمعات ما قبل الحضارة والبنى المجتمعية البسيطة، لم يُنظر إلى السلوك المختلف كتهديد، بل كان يُعامل كمسألة شخصية. في المقابل، يعتمد المجتمع الحديث على عقد اجتماعي يتوقع من الفرد أن يكون منتجًا، مستقلًا، ومنضبطًا، وألا ينحرف سلوكه عن المعايير الاجتماعية.
وعندما يتعارض سلوك الفرد مع هذه التوقعات، يتدخل الطب النفسي كأداة اجتماعية تهدف إلى إعادة تأهيل الفرد ليُناسب متطلبات النظام الاجتماعي. وبذلك، تصبح فلسفة ساس محاولة لفضح البُعد السياسي والمعياري للطب النفسي، الذي يحدد ما هو طبيعي وما هو غير مقبول وفقًا لمعايير اجتماعية متغيرة.
حتى نهاية حياته، ظل توماس ساس مدافعًا عن أفكاره ومبادئه، وعندما وافته المنية في سبتمبر/أيلول 2012 عن عمر يناهز 92 عامًا، انقسمت الآراء حوله بشدة. فقد عدّه البعض بطلا دافع بشجاعة عن كرامة الإنسان في مواجهة السلطة الطبية، بينما حمّله آخرون مسؤولية غير مباشرة عن تفكيك مؤسسات الرعاية النفسية، ما ترك الآلاف يواجهون معاناتهم في العراء.
لقد اختار توماس ساس الانتحار كنهاية لحياته بعد تدهور صحته الجسدية، في تجسيد لأفكاره عن حرية الفرد في تقرير واختيار مصيره حتى لحظة الموت.
ورغم مرور أكثر من نصف قرن على انطلاق أفكاره، واختلاف المشهد الطبي بشكل جذري اليوم، لا تزال بعض تساؤلاته وثيقة الصلة بالحاضر: ما حدود التدخل العلاجي؟ ومتى يصبح الطب النفسي منقذًا؟ ومتى يتحول إلى سلاح ناعم للضبط والسيطرة؟ هذه الأسئلة تبقى مفتوحة، وما زالت أفكار ساس تلقي بظلالها على النقاشات المعاصرة حول السلطة، والطب النفسي، والحرية الفردية.
0 تعليق