عندما غادر تاكر كارلسون، المذيع الأكثر شعبية في الولايات المتحدة، قناة فوكس نيوز في أبريل/نيسان 2023، على خلفية جدل كبير بشأن تغطية تلك المحطة للانتخابات الرئاسية عام 2020، تساءل كثيرون عما إذا كان ذلك يشكل بداية أفول نجمه أو ربما نهاية مشواره الإعلامي.
وقد يبدو مثل هذا التساؤل مشروعا، لأنه ليس من البديهي والسهل أن ينتقل مذيع بحجم وشهرة كارلسون وهو من أبرز الوجوه الإعلامية اليمينية، من منبر إعلامي ذي توجه محافظ إلى منبر آخر يوفر له الامتيازات والإمكانات نفسها.
تجربة كارلسون.. صاحب أعلى راتب بين الإعلاميين
لكن كارلسون (مواليد عام 1969)، الذي كان يتلقى أعلى راتب في قطاع الإعلام يفوق 40 مليون دولار سنويا، استطاع في فترة وجيزة أن يجد له موطأ قدم في عالم الميديا، لكن بعيدا عن دائرة الإعلام التقليدي، وإنما من بوابة الإعلام الرقمي.
فبعد أسابيع قليلة على مغادرته قناة فوكس نيوز، أطلق كارلسون برنامجا جديدا على منصة التواصل الاجتماعي إكس، التي كانت معروفة باسم تويتر قبل أن يستحوذ عليها إيلون ماسك.
وفي ديسمبر/كانون الأول 2023، أطلق مشروعا إعلاميا رقميا متكاملا سماه "شبكة تاكر كارلسون" (Tucker Carlson Network) وهي خدمة بث مدفوعة.
وفي تقديمه لذلك المشروع، يقول كارلسون إنها منصة بث جديدة تضم محتوى مرئيا (فيديو) حصريا، ويروي قصصا مهمة لمساعدة المتلقين على فهم العالم.
وأضاف أن الشبكة تأتي بديلا للتغطية الإخبارية السائدة في الغرب والتي أصبحت في نظره "أداة للقمع والسيطرة"، مشيرا إلى أن "الصحفيين لم يعودوا يكشفون عن معلومات جوهرية للجمهور، بل يعملون على إخفائها، كما أصبحوا يحتقرون الجمهور ويكرهون الحقيقة"، على حد تعبيره.
The Prime Minister of Israel is openly meddling in American politics. https://t.co/U5flQWmacR pic.twitter.com/TzMaueqslL
— Tucker Carlson Network (@TCNetwork) October 2, 2025
إعلان
وتشير الأرقام إلى أن البودكاست الذي يقدمه كارلسون يحل بانتظام ضمن المراكز الخمسة الأولى في تصنيفات "سبوتيفاي" الأسبوعية للبودكاست، بل يحتل أحيانا المرتبة الأولى، متفوقا على برامج بودكاست تقدمها وجوه شبابية خرجت من رحم الإعلام الرقمي.
وبذلك التحول من الإعلام التقليدي إلى الرقمي، وفي أحدث تمظهراته (البودكسات)، يثبت كارلسون، وهو أحد الأصوات الأكثر تأثيرا في اليمين الأميركي، أنه ليست هناك قطيعة مطلقة بين الأسلوبين، وإنما جسور وحبال يتطلب عبورها مهارات وقدرات ربما لا يمتلكها الجميع.
وقد يفسر ذلك النجاح في أن كارلسون المتخرج من الجامعة عام 1991 قد مارس العمل الإعلامي بكل أشكاله، إذ بدأ مشواره المهني في الصحافة المكتوبة وعمل في مؤسسات رئيسية محسوبة على التيار اليميني.
وفي مرحلة لاحقة، عمل في الإعلام المسموع والمرئي عندما التحق بقناة "سي إن إن" عام 2000 مقدم برامج، من أشهرها "كروسفاير" (Crossfire)، وهو برنامج مناظرات وجدالات أُلغي عام 2005، وفي السنة نفسها أنهت القناة علاقتها بمقدم البرنامج نفسه.

وبدأ نجم كارلسون في الصعود أكثر عندما التحق بقناة فوكس نيوز عام 2009 وظهر في عديد من البرامج بصفته معلقا، وعام 2016 كُلف بتقديم برنامج "تاكر كارلسون الليلة" الذي أصبح البرنامج الإخباري الأعلى مشاهدة على قنوات تلفزيون الكابل في وقت الذروة بالولايات المتحدة.
وتزامنا مع عمله في "سي إن إن"، اقتحم كارلسون عالم الصحافة الإلكترونية وساهم عام 2010 في تأسيس موقع "ذا ديلي كولر" (The Daily Caller) الذي كان وقتها منبرا رائدا في الصحافة المحافظة، وظل مكلفا برئاسة تحريره إلى غاية عام 2020 عندما باع حصته في الموقع، وتفرغ بشكل كامل لتقديم برنامجه التلفزيوني.
وعندما ركب الموجة الرقمية، اكتشف الجمهور ملمحا آخر من شخصية كارلسون الذي ازداد يمينيّة، وفق تقدير أحد كتاب الرأي في "نيويورك تايمز"، لأنه لم يعد خاضعا لضوابط وقيود مؤسسة إعلامية بذاتها، وهكذا أصبح أكثر حرية في المجاهرة بمواقفه وبات ضمن الدائرة الإعلامية المؤثرة في الحزب الجمهوري.
ومنذ مغادرته فوكس نيوز، أصبح كارلسون أكثر حضورا في الأوساط اليمينية، وكان ذلك لافتا طيلة فترة الحملة الانتخابية لترامب عام 2024 وتجلى مؤخرا في كلمته المؤثرة في أثناء مراسم تأبين الناشط اليميني تشارلي كيرك الذي اغتيل في العاشر من سبتمبر/أيلول الماضي.

كريس كومو: هامش أكبر للتعبير بتلقائية وصدق
وفي تجربة مشابهة نسبيا، أثبت المذيع التلفزيوني الأميركي المشهور كريس كومو أن تقديم البرامج التلفزيونية والبودكاست لا يتعارضان بل يتكاملان؛ ذلك أنه حاليا يقوم بالاثنين في الوقت نفسه على منصتين مختلفتين.
وقبل كارلسون بنحو عامين، تم استبعاد كومو (مواليد عام 1970) من قناة "سي إن إن" في ديسمبر/كانون الأول 2021 بعد أن أثبتت التحقيقات أنه شارك في الدفاع عن شقيقه الحاكم السابق لولاية نيويورك أندرو كومو في مواجهة اتهامات باعتداءات جنسية.
إعلان
وقد أثارت تلك القضية وقتها جدلا واسعا ووصلت أصداؤها إلى القضاء، حيث رفع كومو دعوى قضائية على "سي إن إن"، وطالبها بتعويض مالي قدره 125 مليون دولار لقاء ما تكبده من متاعب جراء فصله من عمله.
وقبل أن يصبح من ألمع مذيعي "سي إن إن" وصاحب برنامج يذاع في الذروة، ويحمل اسمه "كومو برايم تايم"، اشتغل كومو في كبريات المحطات التلفزيونية الأميركية، ومن بينها فوكس نيوز و"إيه بي سي".
" frameborder="0">
وبعد مغادرة "سي إن إن"، خاض كومو غمار الإعلام الرقمي وأطلق بودكاست باسم "مشروع كريس كومو" الذي يبث على منصات البودكاست الرئيسية، مثل أوديبل وسبوتيفاي وآبل، إضافة إلى يوتيوب ومنصات أخرى.
ويركز ذلك البودكاست بشكل خاص على الشأن الأميركي وعلى القضايا العالمية وفق رؤيته الخاصة وبأسلوبه الخاص المتحرر من الضوابط المؤسساتية الصارمة.
وفي حلقة بتاريخ الثاني من أكتوبر/تشرين الأول الجاري، انتقد كومو بشدة الادعاءات التي ساقتها إدارة الرئيس دونالد ترامب لتبرير الإغلاق الحكومي، إذ ألقت باللوم الكامل على الديمقراطيين واتهمتهم بتوجيه نسبة من الإنفاق العام إلى "فتح الحدود" و"الرعاية الصحية للمهاجرين غير الشرعيين".
وقال كومو -في تلك الحلقة- إن ادعاءات الجمهوريين مبالغ فيها وصممت بهدف تأجيج الغضب وتقسيم الناخبين، وانتقد الدور المُتنامي لوسائل التواصل الاجتماعي في تغذية مشاعر الكراهية في أميركا.
ويمثل كومو ربما حالة خاصة في المزج بين الإعلام التقليدي والرقمي؛ ذلك أنه إلى جانب تقديم البودكاست الذي يحمل اسمه، فهو يقدم أيضا برنامجا إخباريا مسائيا بعنوان "كومو" على قناة "نيوز نيشن" (NewsNation).
وعلى غرار كارلسون، أثبت كومو أن تجربة البودكاست الخاص تتيح للمذيع هامشا أكبر في التعبير عن وجهة نظره، وأن يكون أكثر عفوية وصدقا في التعليق على الأحداث والتفاعل مع الجمهور.

بول كروغمان.. من نيويورك تايمز إلى تطبيق "سبستاك"
وإذا كان العبور من التلفزيون إلى البودكسات أمرا شبه بديهي في حالتي كارلسون وكومو، فإن الانتقال من الصحافة المكتوبة إلى الصحافة الرقمية كان أيضا بمثابة طفرة طبيعية في تجربة الاقتصادي الأميركي البارز والكاتب بول كروغمان.
فبعد أن أمضى ربع قرن (1999-2024) في "نيويورك تايمز" وكان من أبرز كتابها، وحصل خلال فترة عمله فيها على جائزة نوبل للاقتصاد، انطلق كروغمان في تجربة إعلامية جديدة، عندما انتظم في الكتابة على منصة "سبستاك" (Substack) التي ما فتئت تواصل نجاحها وانتشارها.
وفي حديثه عن ذلك التحول، يقول كروغمان إنه غادر "نيويورك تايمز" بعد خلافات مع الجهة التي تولت الإشراف على صفحات الرأي عام 2024، وأوقفت إصدار "رسالة داخلية" كان يحررها بانتظام، إضافة إلى ذلك، قال الكاتب إن مقالاته أصبحت تخضع لكثير من التعديلات، وهو ما لم يعد يتحمله فقرر المغادرة.
وبعد أن ترك الصحيفة، بدأ كروغمان فورا في كتابة مقالات مطولة بشكل يومي عبر حسابه الخاص على منصة "سبستاك"، وزادت وتيرة إنتاجه، فبعد أن كان يكتب مقالين في الأسبوع فقط في "نيويورك تايمز"، أصبح يكتب بشكل شبه يومي بما في ذلك خلال عطلات نهاية الأسبوع.
وتعليقا على تلك النقلة في مسار كروغمان، يقول المدون والصحفي الأميركي المهتم بشؤون الميديا، كيفن درام، إن كروغمان عاشق للكتابة، وإن غزارة إنتاجه في المحطة المهنية الجديدة تثبت أنه يكتب بدافع الحب دون القلق بشأن ملاءمة كتاباته لقوالب أو قيود النشر.

وبالفعل فإن ما يميز منصة "سبستاك" هو عدم وجود قيود على الشكل أو التوجه السياسي، وهو ما جعلها تجذب الصحفيين والمثقفين في الولايات المتحدة، إضافة إلى أنها تشترط الاشتراك (بدءا من 5 دولارات شهريا) للاطلاع على المحتويات المنشورة كافة، وهو ما يعني أنها تشكل مصدرا للدخل بالنسبة لكتابها.
إعلان
ويقر كروغمان بأنه بات أكثر حرية في التعبير عن آرائه، وقال في حوار مع "مجلة كولومبيا للصحافة" إنه أصبح بإمكانه التحدث بحرية أكبر مما كان عليه الأمر في "نيويورك تايمز".
كما أنه لم يعد مقيدا بالشروط الصارمة للكتابة في مؤسسة إعلامية راسخة من طينة "نيويورك تايمز"، وأصبح يكتب أحيانا بأسلوب أكثر ذاتية وبطريقة شخصية من وحي تجاربه في الحياة، إذ كتب بعض منشوراته الحديثة انطلاقا من مشاهداته في أثناء رحلة أكاديمية إلى هولندا.
علاوة على ذلك، وفرت "سبستاك" لكروغمان هامشا أوسع للتعبير إذ لم يعد يقتصر على النصوص، بل أصبح يقدم مواد مرئية وفيديوهات، ونشر مؤخرا مقابلة مصورة مع كاتبة الرأي كارين عطية التي طُردت من صحيفة "واشنطن بوست" على خلفية الجدل بشأن مقتل تشارلي كيرك.
وبغض النظر عن أسماء المنصات والمنابر الإعلامية، فإن تجارب كارلسون وكومو وكروغمان وغيرهم تثبت أن الانتقال من الإعلام التقليدي إلى الإعلام الرقمي هو حلقة طبيعية في تطور العمل الصحفي.
وأصبح ذلك التحول يفرض نفسه تدريجيا بالنظر إلى ما توفره الأشكال الجديدة من مرونة وجاذبية، وما تتيحه من هوامش أوسع أمام الصحفيين للإبداع والتكيف والتعبير بحرية أكبر عن أفكارهم وآرائهم.
0 تعليق