العنف ونكوص التنمية: من غزة إلى البلدان الهشة والمتأثرة بالصراع - الأول نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

بقلم: آدم تووز*

أن نبدأ حديثنا بغزة والسؤال أين في غير غزة يموت الناس جوعى ويكافحون من أجل البقاء أحياءً، مهمة ملحة وبنّاءة. كتبتُ عن هذا السؤال قبل بضعة أسابيع. ويدفعني للعودة إليه منشور جديد صدر عن فريق البنك الدولي.
يُدرج تقرير البنك الدولي الضفة الغربية وقطاع غزة ضمن مجموعة بيانات "البلدان الهشة والمتأثرة بالصراعات"، لكن القائمة تمتد لتشمل مناطق عدة في شتى أنحاء العالم. في الوقت الحالي، أجد من المستحيل التفكير في العنف و(اللا) تنمية دون تصور هذه الحلقة المفرغة: غزة - إسرائيل - التنمية - (اللا) تنمية.
كما ذكرتُ سابقاً: تُعدّ غزة حالةً متطرفة (extreme case) لأنها تتعلق بدولةٍ غنية وقويةٍ تضطهد شعبا وتسيطر عليه بإحكام، غالبية شعبه أعزل، في ظلّ حصارٍ مُحكم، بقصد تطهيره عرقيا وبشكل معلن، بالتزامن مع تسريع مشروعٍ استعماريٍ استيطانيٍ متواصل. في أربعينيات القرن الماضي، واجه رافائيل ليمكين صعوبةً بالغة في إيجاد تصنيفاتٍ لوصف حالةٍ مشابهة في بولندا التي احتلّها النازيون. وكان المصطلح الجديد الذي خرج به حينها "الإبادة الجماعية".
يصعب التفكير في أمثلة كثيرة من العصر الحديث تحاكي ما تفعله إسرائيل في غزة. لا شك وقعت حوادث إبادة جماعية، وحالات تطهير عرقي كثيرة في سياق الحروب. لكن التفاوت الهائل في الإمكانات وظروف الحصار، استثنائيان.
تُعدّ غزة حالة استثنائية أيضا من حيث الدعم الشامل الذي تُقدّمه العديد من الدول الغنية الأخرى لإسرائيل، بما في ذلك الدولتان اللتان أحمل جواز سفري منهما. على الأرجح أن أقرب مثال هنا هو دعم المملكة المتحدة والولايات المتحدة للحرب التي تشنها السعودية والإمارات العربية المتحدة في اليمن. فقد دفعتا، بأقل تقدير، ثمن الأسلحة التي زوّدتاهما بها. وفضّلت المؤسسات "الليبرالية" في الغرب تجاهل ما كان يجري بدلا من التغني بولائها للجناة. وكانت التفجيرات والهجمات تقع عموما في ساحة قتال مفتوحة نسبيا، لا تحت الحصار كحال غزة.
يحرك صراع غزة الرأي العام العالمي، على الأقل بين حين وآخر. بينما تمر صراعات أخرى، تطال حياة عشرات الملايين من الناس، مرور الكرام في وسائل الإعلام الغربية.
تُعدّ الحرب الإريترية الإثيوبية المشتركة ضد تيغراي بين عامي 2020 و2022 المثال الأبرز على ذلك. فبحسب أدنى التقديرات، وقع هناك مئات الآلاف ضحايا لحملة تجويع مُتعمّدة. وهناك دلائل متزايدة هذا الصيف على أن إثيوبيا وإريتريا على وشك العودة إلى الحرب، هذه المرة ضد بعضهما البعض. إن خطر حدوث المزيد من البؤس هائل. تُمثّل الحرب الأهلية في السودان أكبر أزمة نزوح وجوع في العالم حاليا. وتشهد جمهورية الكونغو الديمقراطية مراحل من التصعيد والتهدئة بشكل متكرر. ويعاني حزام الساحل الأفريقي، الذي يضم بوركينا فاسو ومالي والنيجر، وكذلك نيجيريا، من أعمال عنف سياسي متكرر.
ما يظهره تقرير البنك الدولي بوضوح تام هو كيف تؤدي هذه الصراعات إلى الفقر ونكوص التنمية. فهي تُشكل معا ما يُطلق عليه البنك الدولي "أزمات متشابكة"، أو ما سميته "الأزمات المركبة" (Polycrisis) علاوة على ذلك، لم تستمر هذه الصراعات على مدى العقود الأخيرة فحسب، بل أصبحت تُعرّف على المستوى العالمي ما نعنيه بالفقر المدقع.
في حين شهد نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية نموا ملحوظا منذ العام 2000، إلا أن الأمر يختلف في البلدان المتأثرة بالصراعات. ففي الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية الكبيرة، انخفضت معدلات الفقر المدقع، الذي بلغ أدنى مستوى له 3 دولارات يوميا، بشكل ملحوظ، لدرجة أنه أصبح، على نحو متزايد، مشكلة متعلقة بالفئات الأكثر تهميشا وهشاشة. لم تعد هذه البلدان "فقيرة"، بل بلدان متوسطة الدخل تعاني من تفاوتات صارخة. بينما في الدول الهشة والمتأثرة بالصراعات، يُعاني ثلث السكان من فقر مدقع، وهي نسبة لم تتغير كثيرا منذ جيل، لذا تُوصف هذه البلدان، وهو وصف دقيق، بالمجتمعات الفقيرة، أو الاقتصادات منخفضة الدخل.... دون بنية تحتية وتراكم رأس المال، تُستبعد الدول منخفضة الدخل المتعثرة من التجارة العالمية كليا أو تمنح مكانة أدنى هيكليا كدول مصدرة للسلع. بينما تُصدر البلدان المتأثرة بالصراعات السلع الأساسية اللازمة للإنتاج العالمي، إلا أن أوضاعها لا تمكنها من شراء السلع أو المواد الخام أو الطاقة اللازمة لتغذية اقتصاداتها.
إذا سألتني، هل فعلنا شيئا لنغير ذلك؟ هل "نقدم" المساعدة؟ ماذا عن حفظ السلام؟ الإجابة هي نعم، تتدفق المساعدات إلى الدول الهشة والمتأثرة بالصراعات، وهناك قوات لحفظ السلام. كلاهما يساعد على إبقاء الناس على قيد الحياة، لكن ذلك لا يعالج فشل التنمية. مع ذلك، دول الشمال العالمي لم تبذل قصارى جهدها. فجهود تقديم المساعدات وحفظ السلام قطرة في محيط: بضع عشرات المليارات من الدولارات سنويا، موزعة على مناطق شاسعة من العالم حيث يفتقر مئات الملايين من الناس إلى الأساسيات البحتة.
من الصعب أن نأخذ على محمل الجد الأحكام العامة حول فعالية أو عدم فعالية المساعدات عندما يكون الجهد ضئيلاً للغاية مقارنة بالمشكلة. هل تطفئ رشة ماء حريقا؟ حسنا، ربما، في بقعة صغيرة واحدة، حتى تعود للاشتعال مرة أخرى.
أما غزة فهي ساحة معركة تدور في معسكر للتطهير العرقي والإبادة، أمام أنظار العالم. والغريب أن مصالح قوية وثرية تطرح نفسها بطرقٍ مُختلفة لتولي عملية إعادة الإعمار والتنمية "ما بعد الحرب"، وما إلى ذلك. بينما لا يُمكن القول، إن شيئا من هذا القبيل يحدث في مُعظم المناطق الأخرى الهشة والمُتأثرة بالصراعات في العالم. ما هي الرؤية المستقبلية لليمن، أو السودان، أو جمهورية الكونغو الديمقراطية، أو منطقة الساحل؟
هذه هي النقطة الأهم التي يطرحها البنك الدولي ومحللون آخرون... يُعاد تعريف الفقر ومعضلة التنمية أمام أنظارنا. فقد كان الفقر حتى القرن الحادي والعشرين تجربة عامة لمعظم البشرية، وكانت الأغلبية العظمى من سكان العالم فقراء. في القرن الحادي والعشرين، أصبح الفقر المدقع حالةً تخص أفريقيا جنوب الصحراء أكثر من أي منطقة، متركزا في مناطق الصراعات المستفحلة. علينا أن نفهم نطاق مناطق الأزمات هذه، وعدد الأرواح المهددة، والانفصال والتفكك الجذري المتزايد بين هذه المناطق التي لم تشهد أي تنمية فعلية لأكثر من جيل، و"بقية العالم".
بينما يعيش مليارات البشر في تنمية حقيقية، يحرم مئات الملايين من البشر من حقهم بأساسيات الحياة والبقاء وجميع مقومات الحياة العصرية. سيبقى الفقر دائما قضية عدم مساواة. وهو كذلك في هذه المناطق أيضا. لكنه يتجاوز أيضا وضع الأفراد أو الأسر أو المجتمعات، في الاقتصادات والمجتمعات الوطنية النامية التي كان يمكن أن تنمو بصورة مغايرة "لولا ذلك". في معظم أنحاء أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، يتحد الفقر والصراع لتشكيل حالة من "نكوص التنمية" أو الركود أو حتى الانتكاس الذي يميز دولاً بأكملها وأنظمة دول إقليمية. لا تتسم هذه الصراعات بنفس القوة المفرطة أو عدم التوازن في القوى كما هو الحال في غزة. لكن في جميع الحالات، نرى "لاعبين خارجين" وقوى إقليمية تشارك فيما يجري. خلال هذه العملية، وبأسلوب مذهل، يمكن لدول الأزمات، مثل رواندا، أن تبرز كقوى إقليمية بحد ذاتها.
الويل لكم إن كنتم هشّين وعرضةً للتأثير الخارجي كجارة رواندا، جمهورية الكونغو الديمقراطية. ليس عبثاً أن تُعدّ إسرائيل أحد النماذج التي يُحتذى بها في قيادة رواندا الحالية.
إنّ التفكير في التنمية بمعزل عن السلطة هو ضرب من السذاجة. لا تنمية بدون إشراك القوى والمصالح. السؤال المهم هو كيف تشكّل السلطة وماذا ستكون نتائج تشكلها وآثارها على الأرض؟ يُمكنها أن تُنتج إبادة جماعية، أو فوضى عارمة. كجزء من استراتيجية هيمنة وطنية أو هيمنة أوسع نطاقا، يُمكن أيضا تهيئة السلطة السياسية والمصالح الاجتماعية للحدّ من المعاناة الملموسة ورفع مستوى معيشة من هم في قاع السلم العالمي.
إذا كانت رواندا هي النموذج، فإنّ أفضل سيناريو سيبدو البحث عن النظام في عالم جديد متعدد الأقطاب من القوى المتوسطة الدخل المتنافسة. لكن، إذا جمعنا غزة وتيغراي والسودان في المشهد الأوسع للدول الهشة والمتأثرة بالصراعات كما وصفها البنك الدولي، فإن السيناريو البديل سيكون استقطابا جيو - اقتصاديا وصراعا وتفاوتات صارخة لم نشهدها من قبل.
-----------------
* آدم تووز أستاذ التاريخ في جامعة كولومبيا، نشر هذه المقالة في مدونته في 20 آب 2025، ويعيد معهد "ماس" نشرها لمناسبة "محاضرة يوسف صايغ التنوية" السنوية، والتي سيقدمها تووز هذا العام في 22 الجاري.

0 تعليق